ربما تختلف قصتنا نحن العراقيون مع القضية الفلسطينية قليلًا مقارنةً بما عليه في سائر المنطقة. فنحن وإياهم أبناء مأساة واحدة عنوانها "الحرب الدائمة"، وأخبار الموت الذي لا يأخذ استراحة.
شُيِّدت ذاكرتنا عن فلسطين منذ "معركة جنين" في تشرين الأول/أكتوبر عام 1948، التي خاضها الجيش العراقي لمنع تهجير أهلها، فأصبحت المعركة رمزًا لبطولته مع المتطوعين الفلسطينيين آنذاك، وقبورهم التي احتضنتها مدينة جنين في مقبرة خاصة توثِّق هذه الذكرى.
ثم أتت بعد ذلك حرب 1967، حيث قامت القوات الجوية العراقية بتنفيذ العديد من الضربات داخل العمق الإسرائيلي (تل أبيب، ونتانيا، وكفر سيركين). وهكذا بقي الجيش العراقي حاضرًا في كل المعارك دفاعًا عن فلسطين وأهلها، ونُسجت عن معاركه قصصًا تتناقلها الأجيال حتى الآن.
استدعى نتنياهو بقوله إن الحرب على غزة هي حرب الحضارة ضد الهمجية، ثقافة قائمة على ثنائية الخير والشر، ومدعومة بقناعات عنصرية تدور حول مركزية الذات وثانوية الآخر
مؤخرًا، أعدت النظر في شريط ذكرياتي عن حرب العراق. أصبحت أحداثه عبارة عن فيلم فقدتُ دهشة مشاهدته مقارنةً بما يعيشه الشعب الفلسطيني. أتذكر يوم تعرفت على هذه القضية؛ كنت حينها طفلًا يشاهد الأخبار على قناة "الشباب" التي كانت تبث في زمن النظام السابق، وظهر المذيع (وكان اسمه غضنفر عبد المجيد) بزيه الخليجي وصوته المتميز يقرأ نشرة الأخبار، وفيها أطفالٌ يطاردون الدبابات والعربات الإسرائيلية بالحجارة. وشاهدتُ أيضًا مقتل محمد الدرة وهو مختبئٌ في حضن والده خلف برميل حديدي في اليوم الثاني من انتفاضة الأقصى عام 2000.
وأتذكر أيضًا أول قصيدة حفظتها عن فلسطين في المدرسة الثانوية، وكانت من ضمن القصائد التي يجب علينا حفظها، وهي "أخي جاوز الظالمون المدى"، للشاعر علي محمود طه، وما زلتُ أحفظ كلماتها: "أخي جاوزَ الظالمونَ المدى/ فحقَّ الجهاد وحقَّ الفِدا/ أنتركهم يغصبون العروبة/ مجد الأبوّة والسؤددا/ وليس بغير صليل السيوف/ يُجيبون صوتًا لنا أو صدى".
كان هذا مدخل ذاكرتي نحو القضية الفلسطينية، وأتصوّر أن لكلٍ منا نحن العراقيين مدخله الخاص إليها، لوجود ترابط وثيق ومعارك كبرى كان العراق حاضرًا فيها. ولعل الشاعر العامي عبود الكرخي (1861 – 1946) كان أول من كتب شعرًا عن فلسطين: "يصير أنا أقبل بقسمة فلسطين؛ يصير أحب ملّة الصهيونية". ويقول في قصيدة أخرى: "فلسطين الشهيدة يا حسافة تصير/ للصهيوني لقمة! سودة رايتنا".
تمنيتُ لو كان الشاعر العراقي مظفر النواب (1934 – 2022) حيًا ليشاهد امرأة من غزة تقرأ على وقع صفارات سيارات الإسعاف قصيدته الشهيرة "القدس عروس عروبتكم"، بين جثث الشهداء وأنقاض المباني التي دمّرها القصف الإسرائيلي. تصرخ المرأة بصوت أجشّ فتخرج الدموع مع كلماتها: "غزة عروس عروبتكم/ فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟/ ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها/ وسحبتم كل خناجركم/ وتنافختم شرفًا/ وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض/ فما أشرفكم/ أولاد القحبة، هل تسكت مغتصَبة؟/ أولاد القحبة/ لست خجولًا حين أصارحكم بحقيقتكم/ إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم/ تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم/ لا تهتز لكم قصبة".
أكملت المرأة القصيدة ولا أظن أن عراقيًا لم يبكِ وهو يشاهدها، وتمنى في الوقت نفسه لو كان النواب يشاهد قصيدته تُقرأ في زمانها ومكانها المناسبين.
نخال أحيانًا أننا نحن العراقيين فلسطينيون، وأنّ جذورنا نبتت هناك في تلك الأرض، وربما لدى الفلسطينيين الشعور نفسه، أي أنهم عراقيون ونبتوا في أرض الرافدين. سألتُ مرة شاعرًا فلسطينيًا يقيم في المهجر: هل أنتَ عراقي؟ سألته لأني رأيته قد كتبَ الكثير عن العراق وأوضاعه السياسية بشكلٍ أذهلني. ومن الظريف أن الشاعر الفلسطيني نجوان درويش كتب في أحد دواوينه: "في كلِّ مكانٍ ذهبتُ إليه ظَنّوني عراقيًا".
تشابه القصص والألم
عجيبٌ هذا التشابه بين العدوانين على بغداد وغزة. يتداول ناشطون صورة من جزأين تُظهر حممًا نارية ترتفع حتى السماء في بغداد عند بدء الهجوم عليها عام 2003. وفي الجانب الآخر، نرى صورة لغزة وهي تُقصف من قبل طائرات الاحتلال الإسرائيلي.
ليس هذا فحسب، بل إن الذرائع التي يبرِّرُ المحتلون جريمتهم عبرها هي ذاتها؛ زعموا أن العراق يمتلكُ أسلحة دمارٍ شامل! وهي كذبة فاضحة، فالحقيقة كما يقول لويس رويدا رئيس مجموعة عمليات العراق في وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه": "كنا سنغزو العراق، حتى ولو كان ما بحوزة صدام حسين هو مجرد رباط مطاطي ومشبك ورق.. كنا سنقول إنه سيستخدم هذه الأشياء لفقأ عينك".
وفي الحرب على غزة، برَّر الإسرائيليون هجومهم الوحشي الذي راح ضحيته حتى كتابة هذه السطور أكثر من 17 ألف شهيد، أغلبهم من الأطفال والنساء، وأكثر من 2000 مفقود ما زالوا تحت الأنقاض، عبر الادعاء بأن المقاومة الفلسطينية قطعت رؤوس 40 طفلًا، وهذا الخبر بثّته قناة إسرائيلية اسمها "آي 24 نيوز"، ومنها انتشر إلى وسائل إعلام وصحف أجنبية عديدة. ناهيك عن محاولات ربط المقاومة الفلسطينية بتنظيم "داعش" الإرهابي كجزءٍ من البروباغندا الإسرائيلية. والمثير أن الرئيس الأمريكي جو بايدن استند إلى هذه الكذبة المفضوحة لتبرير تشجيعه "إسرائيل" على المضي "بلا خطوط حمراء"، كما قال الناطق باسم البيت الأبيض! شوَّهتْ الأسلحة المحرمة وجه بغداد وغزّة، وأخفت معالمهما، وأحرقت سكانهما أيضًا.
أتذكر تصريحًا أدلت به مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية سابقًا، في مقابلة أجراها معها برنامج "60 دقيقة" لقناة "CBS" في 12 أيار/مايو من عام 1996. عندما سألتها المذيعة: "سمعنا أن نحو نصف مليون طفل ماتوا في العراق، وهذا عدد أطفال أكثر من الذين ماتوا في هيروشيما. هل تستحق الغاية؟"، أجابت أولبرايت: "أعتقد أن ذلك خيار صعب جدًا، ولكننا نعتقد أن الثمن يستحق".
في المقابل، صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: "لقد أمرتُ بفرض حصار كامل على غزة. لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود. نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك". وهي حرب الحضارة ضد الهمجية كما قال نتنياهو مستدعيًا ثقافة وعقلية راسخة قائمة على ثنائيات الخير والشر، ومدعومة بأحاسيس عنصرية تدور حول مركزية الذات وثانوية الآخر.
أبو غريب.. جرحٌ يتجدّد في غزة
عشرون سنة مرّت على الفظائع التي ارتكبها جنود الاحتلال الأمريكي بحق المعتقلين في سجن أبو غريب، والتي سرعان ما افتضح أمرها أمام العالم؛ معتقلون جُرِّدوا من ملابسهم وأصبحوا عراة يرمونهم مثل الجثث واحدًا فوق الآخر، ويطلقون عليهم الكلاب المتوحشة، ويعرضونهم لصعقات كهربائية في مناطق حساسة، ويغتصبونهم ويصلبونهم مثلما جرى للمسيح تمامًا، بحسب ما تسرّب من الصور وشهادات المعتقلين.
كانت هذه الذكرى الأليمة غافية إلى أن شاهدنا مقطع فيديو تداولته المنصات الإسرائيلية يُظهر عمّالًا معتقلين من غزة أُجبروا على خلع ملابسهم بالكامل، وتعرّضوا للضرب المبرح وسُحقت وجوههم بالأحذية العسكرية، ووضعوا فوق بعضهم البعض مثلما حصل في سجن أبو غريب مع المعتقلين العراقيين قبل عشرين عامًا!
الموصل والفلوجة.. نسخ الدمار والمجازر
ما تزال جراح أهل الموصل والفلوجة نديَّة. ففي عام 2004، شن الجيشان الأمريكي والبريطاني حربًا على الفلوجة استُخدمت فيها الأسلحة المحرمة، ووصفها الجيش الأمريكي بأنها: "من أعنف المعارك المدينية التي شارك فيها مشاة البحرية الأمريكية منذ معركة (مدينة هو) في فيتنام عام 1968". ومن الآثار المأساوية التي تركتها هذه المعركة جراء استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا، أن الكثير من مواليد الفلوجة بعد عام 2004 يولدون بتشوهات خلقية.
شوَّهتْ الأسلحة المحرمة وجه بغداد وغزّة، وأخفت معالمهما، بل وأحرقت سكانهما أيضًا
أما معركة الموصل، فقد راح ضحيتها 11.000 مواطن خلال المعارك التي خاضها الجيش العراقي والتحالف الدولي لتحرير المدينة من قبضة "داعش"، وما تزال آثار الدمار قائمة إلى اليوم.
وقد استفز الرئيس الأمريكي جو بايدن ذاكرة العراقيين بعد أن نصح حكومة الاحتلال بأن تكون حربها على غزّة أقرب إلى ما حدث في الموصل عام 2016، وليس الفلوجة عام 2004، وأرسل إليها الجنرال جيمس غلين الملقب بـ"سفاح العراق" وفقًا لموقع "أكسيوس"، وهو الذي ترأس سابقًا العمليات الخاصة لمشاة البحرية الأميركية (المارينز). وشارك غلين في الحرب على الفلوجة التي قُصف بأسلحة محرمة دوليًا بينها الفسفور الأبيض.
وعلى الرغم من انكساراتنا وجراحنا الندية، فليس لدينا غير التضامن ومعه عزاء يأبى أن ينتهي. وكل جثة شهيد تُسحب من تحت الأنقاض تَحجز لها مكانًا في قلوبنا. مكبّلون بالعجز وقلة الحيلة بسبب أنظمتنا السياسية الهجينة التي حطمت فينا كل شيء.
هل ستبقى راياتنا سوداء إلى الأبد، كما قال الشاعر العراقي الشعبي عبود الكرخي متحسرًا؟