حمل المتظاهرون السوريون، بداية الثورة السورية عام 2011، لافتات كتب عليها "اضربونا بالرصاص المطاطي أسوة بإسرائيل".
حملت هذه العبارة وقتذاك ردًا على القتل المجاني بالرصاص الحي للمتظاهرين السلميين، في مختلف أرجاء سوريا.
كانت تلك العبارة على بساطتها وعمقها في آن معًا بداية تشكل وعي جمعي جديد تجاه طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، وخلقت مناخًا سياسيًا مشحونًا يقارن بين الأنظمة الاستبدادية المتسلطة على الشعوب العربية، وبين سلطة الاحتلال الإسرائيلي كنظام سياسي مفتعل.
ومع تصاعد الوحشية، وبشكل خاص من قبل النظام السوري، تجاه تمدد الثورة السورية، تحولت تلك المقارنة إلى ما يشبه إعادة تقييم الموقف السياسي من الاحتلال الإسرائيلي، وصلت حد البحث التاريخي عن مجمل الضحايا الفلسطينيين، الذين قتلهم الاحتلال على مدى 60 عامًا ومقارنتهم بأعداد السوريين القتلى خلال بضع سنين من الصراع مع النظام.
تعالت الأصوات المحذرة من الانجراف وراء هذه المقارنات، وهدّدت بفقدان الثورات لمشروعيتها الوطنية إن هي استمرت بغسل يدي إسرائيل من دماء الفلسطينيين بأثر رجعي، وتعميم خطاب يأنسن الاحتلال ويؤصل روايته المخادعة بأنه جزيرة من الديمقراطية وسط بحر متلاطم من الأنظمة الشمولية والعسكرية والطائفية.
إن صور الدعم والمناصرة والتعاطف التي جاشت بها صدور السوريين، من تحت ركام الأحياء والمدارس والمستشفيات في إدلب، تبجيلًا لهذا الخرق العظيم الذي أحدثه طوفان الأقصى، يؤكد أنه ثمة أكثر من فلسطين واحدة
وبدافع من الغضب والشعور العميق بالألم والخذلان، جراء المجازر التي لا تحصى، وسلوك الإبادة الجماعية الذي انتهجه النظام السوري، انساقت مؤسسات إعلامية كثيرة وراء تلك المقارنات، ومهدت الطريق أمام تحويل هذه المقارنات إلى مقاربات سياسية تريد ربط الخلاص من الاستبداد، ووضع حد لهذه الجريمة المعلنة بفتح باب للحوار مع إسرائيل، وطمأنتها تجاه البديل السياسي، بل ومدّ سياسيي هذه القراءة بالمبررات الكافية للجلوس مع الإسرائيليين، فهم بالتأكيد يجرون وراءهم تركة مهولة من الفظائع تعينهم على ولوج المحظور، وتتيح لهم تكريس صورة تفضيلية تقارن بين المتوحش والأقل وحشية، في سياق ثمن الخلاص.
احتشد في مواجهة هذه المقاربة، والتي تفاعلت بسرعة كبيرة؛ قوميون عروبيون ويساريون وماركسيون، على امتداد العالم العربي، ووجدوا فيها دليلًا لا يمكن دحضه على خبث هذه الثورات، وعلى ارتهانها، وقصر نظرها، وبأن تلك المقاربة، كانت في الأساس ومنذ اللحظة الأولى، مستترة وراء حركات مطلبية محقة في معظمها، لكنها، أي الثورات، قابلة للامتطاء والتوجيه، بغرض تفتيت القضية الفلسطينية، وإعادة تعريف الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء التحولات الوطنية، وإحياء شعار الدولة الوطنية أولًا.
وبالطبع، لم تفوت إسرائيل الفرصة، بل تجملت، وتحضرت، وتمنعت عن الخوض العلني في هذه المقاربة، لكنها وظفتها في تكريس صورتها، وحاولت الإمعان في إظهار هكذا تفضيلات، ووصلت إلى حد من الوقاحة، أن وزير أمنها السابق، أفيغدور ليبرمان، وصف بشار الأسد بالجزار الذي يقتل شعبه، وبأنه يجب أن يرحل.
بفضل هذا، استطاع محور "المقاومة والممانعة" الغارق بدم السوريين حتى الركب، أن يلاحق الثوارات بوصمة العار الإسرائيلية، ويحافظ رغم كل الوحشية والإبادة، على وضعية مستقرة في مشهد الصراع العربي الإسرائيلي، وبدلًا من أن تكون تلك المقارنات سبيلًا في إدانته، وحشره في الزاوية، صارت تأكيدًا على أن بشار الأسد يحارب بالنيابة عن مستقبل القضية الفلسطينية ومصيرها، وعن ثوابت وحقوق الشعب الفلسطيني.
هنا بالضبط تظهر لنا فلسطين، في شكلها السياسي، فلسطين الوظيفية القابلة للاستخدام السياسي، والمثالية في قدرتها على مد أي سلطة إجرام بالشرعية المطلوبة، فلسطين الحق، التي يراد من وراءها الباطل. لم يلق أحد بالًا لتدمير مخيم اليرموك في دمشق من قبل النظام، ولا لحجم المجازر التي ارتكبها بشار الأسد بحق فلسطيني المخيم بدعوة تسهيل حركة حماس لمرور عناصر جبهة النصرة وداعش، وإيقاع المخيم بأيديهم.
وبسبب موقف الحركة المنحاز للثورة السورية وقتذاك، لم يتردد النظام السوري في إخراج حماس من سياق محور المقاومة، وتشويه صورتها والتشكيك بانتمائها لفلسطين، وبأنها توظف فلسطينيتها في خدمة أيديولوجيتها الإخوانية، وهي ذات التهمة التي عزل فيها عبد الفتاح السيسي الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، وأودعه السجن بتهمة التخابر مع حماس، ومات في محبسه، بوصفه الخائن الذي فتح قنوات اتصال مع حركة حماس الفلسطينية، في مشهدية سريالية يحاكم فيها رئيس مصري، لأنه على اتصال بفصيل فلسطيني مقاوم لإسرائيل.
كلما توغلنا في فلسطين الوظيفية زاد المشهد تعقيدًا وتراكبية، لكن كيف يجب أن يشعر السوري الآن، أمام طوفان الأقصى؟ فقبل عام بالضبط، في تشرين الأول/أكتوبر 2022 زارت حماس الأسد وطبعت العلاقات معه. فهل على السوري أن يشعر بالغدر والخذلان، من مشهد تطبيع الحركة مع الأسد، كما شعر الفلسطيني بالغدر والخذلان، من مشاهد التطبيع العربية مع إسرائيل؟ وهل سيترجم هذا الشعور إلى تجاهل ولا مبالاة بما أحدثته المقاومة في طوفانها؟
إن صور الدعم والمناصرة والتعاطف التي جاشت بها صدور السوريين، من تحت ركام الأحياء والمدارس والمستشفيات في إدلب، تبجيلًا لهذا الخرق العظيم الذي أحدثه طوفان الأقصى، يؤكد أنه ثمة أكثر من فلسطين واحدة، وأن مشاعر الفخر تخطت فلسطين الوظيفية، وتمسكت مرة أخرى بفلسطين التاريخية وفلسطين الوجدانية. سقطت تلك المقارنات الصبيانية، وتطابقت صور الوحشين بشكل لامثيل له. غزة تدك من قبل إسرائيل، وإدلب تحترق حرفيًا بفعل صواريخ الأسد وقذائفه الفوسفورية الحارقة.
هذا التزامن بين غزة وإدلب، أعاد إسرائيل إلى إطارها الوحشي المعتاد، وأفقدها وضعيتها الفوتوغرافية الديمقراطية في مشهد الشرق الأوسط. دُكت إدلب انتقامًا بسبب فعل إرهابي مفتعل يفتقد إلى أدنى دليل ملموس أو تحليلي، وهو أن فصائل المعارضة هي من قامت باستهداف حفل تخرج الكلية الحربية في حمص، والذي راح ضحيته مدنيون وعسكريون، وتدك غزة انتقامًا من الفصائل التي اقتحمت أرضها التاريخية، وقتلت وأسرت المئات من المستوطنين وجنود الاحتلال.
أعاد طوفان الأقصى لإسرائيل تعريفها التاريخي بوصفها نظام احتلال مغتصبًا ومُفتَعلًا، وغير حقيقي، وأن عوامل بقائه هشة وغير قابلة للاستمرار
يتطابق المشهدان من حيث وحشية الانتقام ونوعية الضحايا وعقلية المنتقم، ويفترقان فقط من حيث طبيعة القضية وخصوصيتها.
أعاد الطوفان لإسرائيل تعريفها التاريخي بوصفها نظام احتلال مغتصبًا ومُفتَعلًا، وغير حقيقي، وأن عوامل بقائه هشة وغير قابلة للاستمرار. وفي الوقت نفسه، عزز تطابق الوحشية بين الأسد وإسرائيل، حتمية زوال الاثنين، فالأول نظام سياسي فاقد للشرعية منذ سنوات طويلة، وشيئًا فشيئًا بدأ بالتحول إلى سلطة وهمية غير حقيقية شأنه في ذلك شأن إسرائيل، والثاني هو سلطة لاشرعية لها في الأصل، وعوامل استمرارها من خارجها وليست من داخلها، وهذا ما يحتم زوالها.
استحالت المقارنات التفضيلية إلى مقارنات تطابقية، فالأسد وإسرائيل صورتان نابضتان عن اغتصاب الحق، وعن الحكم بالإنعاش. يدرك السوري اليوم أكثر من أي وقت مضى أن فلسطين التاريخية هي الجغرافيا الممكنة، والتي لا يمكن لها أن تصير حلمًا بعيد المنال. ويدرك أن الأرض التاريخية لم تعد صورًا في الخرائط، بل صارت تحت أقدام أبنائها، اليوم في غلاف غزة، وغدًا في حيفا، ونابلس وصفد، وأن التمسك بمعرفة الحق وإدراكه بالعقل والقلب يمكن أن ينزع عنه الاستحالة، وأن الذي لا يحدث بالإيمان والعمل يمكن أن يحدث بالمزيد من الإيمان والعمل.
لذلك منحنا طوفان الأقصى كسوريين، القدرة على استعادة الحلم بأن نرى بشار الأسد خلف القضبان محاكمًا، وبأن اليأس هو الخطوة الأولى في طريق تشوه الحق وتشوش الحقيقة. ومنحنا أيضًا حصتنا من فلسطين الوجدانية، وألهمنا إدراكًا جديدًا بأن الوقوف عند حدود فلسطين الوظيفية لمحاولة فهم قضايانا الوطنية الخاصة، هو أمر ملتبس وغير حقيقي وعارض، قد نختلف ونغضب، ونشعر بالخذلان، لكننا ندرك الآن أنّ خلف فلسطين الوظيفية فلسطينان أخريان، فلسطين التاريخية وفلسطين الوجدانية.