تُسمع كلمة صراع كثيرًا في نشرات الأخبار، ثمّة صراعات كثيرة حول العالم، ولم يحدث أن تجادل اثنان حول معنى الكلمة، فالصراع صراع، حرب وقصف وتدمير، أو حصار اقتصادي وخنق غذائي، أو تضييق بين الأطراف المتصارعة. لكن منذ الحرب العالمية الثانية لم يشهد العالم صراعًا هدفه الإلغاء التامّ، ربّما لأنّ العقل والمنطق لا يقبلان فكرة الإلغاء هذه. وربّما كان الاحتلال الاستيطانيّ الفرنسي للجزائر آخر محاولات إلغاء شعب كامل و"تذويبه" داخل نسيج ليس له، وقد حُكمت بالفشل.
قد يكون ما أذكره في هذا المقال معروفًا بل وهو محفوظ لدى الجميع، ولكنّني سأحاول هنا ذكر أبرز محطّات الصراع بشكل متسلسل وبسيط هادفًا إلى الوصول إلى رؤية واضحة وفهم حقيقي لما يحدث اليوم.
منذ أواخر القرن التاسع عشر قرّر المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بازل السويسرية بزعامة تيودور هيرتزل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وبعدها بدأ الصراع المرير: صهاينة يُريدون السيطرة على الأرض، وفلسطينيون أصحاب الأرض يرفضون ويُواجهون. تمتّعت الحركة الصهيونية بدعم واسع أبرزه دعم بريطانيا التي كانت منتدبة على فلسطين فيسّرت للصهاينة كل السبل لتحقيق هدفهم.
دافع الفلسطينيون عن أرضهم، واستنصروا إخوانهم العرب، وحاولوا مواجهة المشروع الصهيوني بكل الطرق، لكنّ الصهاينة تمكّنوا من انتزاع قرار التقسيم من الأمم المتّحدة عام 1947، وقد رفضه العرب والفلسطينيون، ثمّ انسحب الجيش البريطانيّ من فلسطين تاركًا أسلحته ومعسكراته للعصابات الصهيونية التي شنّت حربًا واسعة أدّت إلى تهجير حوالي 800,000 فلسطيني من أراضيهم. ولم تُفلح خمسة "جيوش" عربية في وقف ذلك وقامت دولة إسرائيل على أكثر من 75 بالمئة من أرض فلسطين.
دافع الفلسطينيون عن أرضهم، واستنصروا إخوانهم العرب، وحاولوا مواجهة المشروع الصهيوني بكل الطرق، لكنّ الصهاينة تمكّنوا من انتزاع قرار التقسيم من الأمم المتّحدة عام 1947
حرب عام 1948 لا يذكرها أحد بوصفها حربًا، بل هي نكبة فقط، كأنّما لم يحدث قتال حقيقي ولا أعمال عسكرية حقيقية، هناك قصص فردية عن مواجهات وبطولات لمقاتلين فلسطينيين وعرب، ولكن حقيقة الأمر أنّ الصهاينة سيطروا على الأرض وانتزعوا اعتراف غالبية دول العالم بدولتهم.
ثار العرب وهاجوا وماجوا، ونصروا اللاجئين الفلسطينيين وساعدوهم، ووقفوا في المحافل الدولية معترضين ومستنكرين، وكانت إسرائيل ترتكب يومًا بعد آخر مجزرة تلو المجزرة في حقّ من لم يُغادروا من فلسطين، مجزرة الطنطورة ومجزرة كفر قاسم يدلاّن على الفعل الصهيوني بعد النكبة، التي لم تكن فقط في يوم 15 أيار/مايو عام 1948 بل ظلّت نكبة مستمرّة يُعانيها الفلسطينيون.
وبدأت الأصوات ترتفع في أكثر من بلد عربي للردّ على النكبة وتحرير فلسطين، وسيطر العسكريون وضبّاط الجيوش العربية على الحكم في أكثر من بلد عربي تحت شعار الإعداد لمعركة تحرير فلسطين. وهكذا بدأ الحكّام العرب يستعدّون لبناء جيوش كبيرة وقويّة قادرة على التحرير. أول معركة كبيرة بعد النكبة كانت حرب السويس حيث هاجمت الجيوش البريطانية والفرنسية والإسرائيلية مصر بعد تأميم قناة السويس، وتوقّفت الحرب بقرار من الأمم المتّحدة بعد ضغط شديد من الإتّحاد السوفييتي. خلال ذلك كان الجيشان السوريّ والعراقي منخرطين في تمكين قادتهم من السيطرة على بلدانهم، من أجل الإعداد لمعركة التحرير الكبرى التي لا يُمكن أن تتمّ إلاّ في ظلّ قيادة عسكرية حكيمة!! كذلك انخرط الجيش المصريّ في حرب مريرة في اليمن خرج منها دون تحقيق أي هدف من أهداف انخراطه الأساسية.
وبعد تسع عشرة سنة وببساطة وخلال ستّة أيام تمكّن الجيش الإسرائيلي من بسط سيطرته على باقي أرض فلسطين التاريخية واحتلال شبه جزيرة سيناء كاملة ومرتفعات الجولان السورية وأراضي أردنية في منطقة وادي عربة. حدث هذا في الخامس من حزيران عام 1967، انهزمت ثلاثة جيوش عربية، وكانت النتيجة أن بقي قادة هذه الجيوش في مواقعهم الحكومية، بل إنّ وزير الدفاع السوريّ خلال حرب حزيران صار رئيسًا للبلاد بعد ثلاث سنوات وبضعة أشهر.
هذه كانت نتيجة الصراع العربي الإسرائيليّ، وتجهد الدوائر الصهيونية والإعلام الغربي المتأثّر بروايتها في تثبيت وتكريس مقولة النزاع "العربي" الإسرائيلي، أي أنّ هناك مشكلة على أراضٍ بين إسرائيل وجيرانها العرب. وكل الذين تمّ تهجيرهم عام 1948 هم مواطنون عرب يُمكنهم أن يعيشوا في أي مكان من الأرض العربية الشاسعة.
هل نُكمل الحكاية، هل هناك ضرورة لذكر حرب تشرين/ أكتوبر "المجيدة" أم إنّ زيارة صغيرة للمتحف الحربي في دمشق كفيلة بإطلاعنا على نتائج هذه الحرب التحريريّة، حيث هناك خريطة (لا أعلم إن كانت ما زالت موجودة) عليها أسماء وأماكن قُرى في الجولان، بينها ثلاث وعشرون قرية مذكور أنّها احتُلّت في حرب تشرين التحريريّة!! هل نتحدّث عن انخراط الجيش العراقي في حرب عبثية طويلة مع إيران، لم تُسفر عن أي نتائج ملموسة، ثمّ اجتياحه للكويت واستعداء كل دول العالم، دون أن تُهديه بوصلته إلى طريق فلسطين ولو بالصدفة! أم عن الاشتباكات بين الجيشين المصري والليبي عام 1976؟ أم عن دخول الجيش السوريّ إلى لبنان وانخراطه في معارك عديدة دعم خلالها جميع الأطراف ضدّ جميع الأطراف! وأخيرًا لا أعتقد أنّ أحدًا يغفل عن إنجازات الجيش السوريّ وبطولات طيّاريه في قصف المدن والقرى السورية والتسبّب بتهجير نصف الشعب السوريّ في نكبة مُريعة معاصرة.
أذكر هذا بمناسبة الأصوات المرتفعة متسائلة أين العرب ممّا يدور الآن من حرب وحشية في قطاع غزّة والضفّة الغربية، مجازر مستمرّة منذ ما يقرب الخمسة أشهر، وتقاعس عربي ودوليّ مخجل.
مفهوم وواضح الدعم الغربي المطلق لإسرائيل وتعهّد أمريكا والدول الغربية بالحفاظ على تفوّق إسرائيل العسكري، ومفهوم كذلك إدراك أنّ مواجهتها في حرب مفتوحة لا تبدو ممكنة، هذا ليس كلامًا في الفراغ بل هو نتيجة قراءة لما حدث بين العرب وإسرائيل عبر التاريخ.
من الواضح أنّه لا سلام مع هذه الدولة، فهم لا يُريدون السلام ولا يرونه ضروريًا. كذلك واضحٌ تمامًا أنّ الصارخين باسم العروبة والإسلام والمقدّسات في فلسطين إنّما يُحدثون ضجيجًا ولغوًا يُغطّي على حقيقة ما يحدث، ويُعطون أنفسهم دورًا هو إعلاميّ فقط، فالآلة العسكرية الإسرائيلية مستمرّة في أفعالها العدوانية، وتصريحات القادة الإسرائيليين المتعنّتة عن رفض أي شكل من أشكال السيادة الفلسطينية، ورفضهم وقف الحرب، وتأكيدهم على سيادتهم على كلّ فلسطين، بل إصرارهم على عدم وضع حدود جغرافية نهائيّة لدولتهم، كل هذا يدلّ على أنّ إسرائيل غير مكترثة لأحد ولا تخاف أحدًا.
ولكن في قلب هذا الواقع الأليم للفلسطينيين، يُمكننا أن نُلاحظ شيئًا، وهو على شكل سؤال لسكّان إسرائيل: هل تمتّعتم بسلام حقيقيّ؟ هل مرّ عليكم يوم دون الخوف من تفجير في مدنكم؟ هل مرّ عليكم يوم دون الخوف من وجود "مخرّبين" مسلّحين في شوارعكم؟ هل تساءلتم يومًا لماذا أنتم تحديدًا من بين جميع شعوب الأرض تُعانون من عدم الاستقرار؟ الجواب واضح: أنتم تعيشون في مكان ليس لكم. أنتم تنامون على وسائد غيركم، لن تهنؤوا، ولن يتوقّف أصحاب الحقّ الفلسطينيين عن فعل كل شيء كي يستعيدوا حقّهم. حاولوا ما استطعتم، اخترعوا أعداء واخترعوا معاهدات سلام مع من لم يُحاربوكم أصلًا، أوهموا العالم أنّكم تُحاربون إيران كما أوهمتموهم أنّكم كنتم تُحاربون جمال عبد الناصر أو صدّام حسين أو معمّر القذّافي، في حقيقة الأمر أنتم لم تُحاربوا سوى الفلسطينيين، وهذه الحقيقة تنكشف وتظهر يومًا بعد آخر جليّة لأنّها معمّدة بالدمّ الفلسطينيّ. ولا أوضح من الدم لإظهار الحقّ.