في الأساطير الإغريقية، لا يزال بروميثيوس مربوطًا بصخرةٍ يذوق شتى أنواع العذاب حتى يومنا هذا، وسيبقى كذلك إلى أبد الآبدين عقابًا على خطيئته الشنعاء الأولى والأخيرة؛ سرقة النار من الآلهة وتسليمها للبشر دون أن يعلم ما سيفعلون بها.
وفي تشرين الأول/أكتوبر 1945، عندما التقى "بروميثيوس الأمريكي" عالم الفيزياء النظرية جيه روبرت أوبنهايمر، أبو القنبلة الذرية، الرئيس الأمريكي حينها هاري إس ترومان، بكى وقال إنه يشعر بأن يديه ملطخة بالدماء، فأخرج الرئيس منديلًا وناوله إياه، ثم وصفه لاحقًا بأنه طفل بكّاء، وقال إنه لم يرغب في رؤيته مرة أخرى.
اليوم، يأمل كريستوفر نولان بأن يرى جمهوره في وادي السيليكون شيئًا في تفسيره للرحلة من ذروة الطموح البشري في "تدمير العوالم" من خلال فيلمه أوبنهايمر، وأن تتضح لهم المقاربات بين الماضي والحاضر، بين فترتي الحرب والسلم، التي لم يُبذل جهدًا كبيرًا لإخفائها.
إذا سمحنا للناس بالقول إن الآلة هي كيانٌ منفصل عن الشخص الذي يستخدمها ويضعها قيد الاستخدام، في هذه الحال فإننا نحكم على أنفسنا بالفشل
بعد عرض فيلم أوبنهايمر في فندق ويتبي في نيويورك الأسبوع الماضي، انضم نولان إلى لجنة من العلماء من مختلف المجالات، بالإضافة إلى كاي بيرد، أحد مؤلفي كتاب "بروميثيوس الأمريكي: نصر ومأساة جيه روبرت أوبنهايمر"، والذي شكّل نواة سيناريو الفيلم، للحديث عن الفيلم.
جلّ جمهور الجلسة كان من العلماء، الذين ضحكوا على النكات حول غرور علماء الفيزياء المتجلي وضوحًا في الفيلم على اختلاف جنسياتهم ومجالاتهم ومواقفهم من الحرب، كما كان هناك حفنة من المراسلين الصحفيين.
في نهاية تلك الجلسة، سأل مديرها، الصحفي تشاك تود من قناة NBC، نولان عما يأمل أن يتعلمه وادي السيليكون من الفيلم. أجاب بدايةً دون تردد: "أعتقد أن ما أريدهم أن يأخذوه من الفيلم هو مفهوم المساءلة".
ثم أوضح: "عندما تبتكر باستخدام التكنولوجيا، عليك التأكد من وجود مساءلة. صعود الشركات على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية تمحور حول كلمات مثل الخوارزمية، دون معرفة المعنى الرياضي الدقيق المقصود تمامًا منها يعني أنهم ببساطة لا يريدون تحمل مسؤولية ما تفعله هذه الخوارزمية "، مشيرًا إلى مجموعة واسعة من "الابتكارات" التكنولوجية التي تبناها وادي السيليكون وشكّلت واجهته خلال سنوات، بينما ترفض الشركات التي تقف وراءها الاعتراف بالضرر الذي أحدثته مرارًا وتكرارًا.
أما عن تطبيق تلك "الخوارزمية" على أنظمة الذكاء الاصطناعي، فقال نولان إن "هذا احتمال مرعب بحق". وبالفعل، تتفاخر وزارات الدفاع وشركات الصناعات العسكرية اليوم حول العالم بمن يدمج أنظمة الذكاء الاصطناعي في البنية التحتية الدفاعية والأسلحة والروبوتات الراقصة المميتة، فيما بدأ الحديث بالفعل عن منح تلك الأنظمة صلاحيات -ولو جزئية في الوقت الراهن- على الترسانات النووية. وبحسب نولان، وإذا سمحنا للناس بالقول إن الآلة هي كيانٌ منفصل عن الشخص الذي يستخدمها ويضعها قيد الاستخدام، في هذه الحال فإننا نحكم على أنفسنا بالفشل. وكرر: "يجب أن يدور النقاش حول المساءلة. علينا أن نحمل الأشخاص المسؤولية عما يفعلونه بالأدوات المتوفرة لديهم".
حرص نولان في حديثه إلى عدم الإشارة بشكلٍ مباشر إلى أي شركة محددة، لكن ليس من الصعب معرفة ما أو من يتحدث عنه، إذ تعتمد شركات مثل جوجل وميتا وأوبن إيه آي مؤخرًا، وحتى نيتفلكس، اعتمادًا كبيرًا على الخوارزميات لاكتساب الجماهير والحفاظ على انتباههم المُشتّت، وغالبًا لم يعد من الممكن إحصاء المضار النفسية، الاقتصادية، الاجتماعية وحتى الجسدية لهذه الحرب الشعواء على المستخدم، وربما تكون مساهمة ميتا بشكلٍ مباشر في الإبادة الجماعية في ميانمار بسبب عدم توظيفها مراقبي محتوى يتحدثون اللغة غير الإنجليزية التي تُنشر بها دعوات العنف، وقتل شاب بلجيكي نفسه بعد حديثه مع روبوت الدردشة Chai. هذه أمثلةً مُقنعةً لمن يرى في الأمثلة التقليدية السابقة حول ضحايا حرب الاهتمام مبالغةً ومعاداةً للابتكار.
المقاربة بين الحالتين ليست جديدة، إلا أن نولان استغل شعبيته وشعبية أفلامه هذه المرة لنقلها على صعيد عالمي. في الواقع، تمّ ابتكار مصطلح "لحظة أوبنهايمر" لأول مرة على الذكاء الاصطناعي بواسطة مهندس البرمجيات الأمريكي ألان كوبر خلال خطاب ألقاه في شباط/فبراير 2018 في أستراليا وجهه لعامة العاملين في القطاع، إذ عرّف المصطلح بأنه "تلك اللحظة التي تدرك فيها أنه تم تدمير أحسن نواياك، عندما يُستخدم منتجك بطرق غير متوقعة وغير مرغوب فيها. إنها تلك اللحظة التي تدرك فيها أنه على الرغم من أنك قد تكون لست عنصريًا، فقد تكون خوارزمياتك كذلك".
كريستوفر نولان: "عندما يُستخدم منتجك بطرق غير متوقعة وغير مرغوب فيها. إنها تلك اللحظة التي تدرك فيها أنه على الرغم من أنك قد تكون لست عنصريًا، فقد تكون خوارزمياتك كذلك"
ذلك الوصف الذي وضعه كوبر قبل خمس سنوات يتّسق تمامًا مع ما تكشّف منذ ذلك الحين، إذ أفادت التحقيقات بأن مهندسي فيسبوك لم يعلموا بما كان يجري وراء الستار في عملية كامبردج أناليتيكا أثناء حياكتها، كما لا يعلم معظم مهندسي الشركة حتى اليوم أين تُحفظ البيانات، وأن قلة قليلة فقط من مهندسي جوجل يمكنهم الاطلاع على مشاريعها "السرية" وإن كانوا جزءًا منها، وليس أخيرًا، الأنباء والشهادات التي تخرج كل يوم عن عاملين من إفريقيا حول انخراطهم ضمن مشاريع لصالح أوبن إيه آي دون إدراكهم ذلك.
على الجانب الآخر، وصلت الرسالة، ولم تُترك في وضع القراءة دون رد. فمنذ الأيام الأولى لعرض الفيلم، استجاب كبار وادي السيليكون وعبّروا عمّا أثاره الفيلم في بواطنهم، فبالنسبة لسام ألتمان، رئيس أوبن إيه آي ونجم وادي السيليكون الأول حاليًا، لم يستطع إخفاء خيبته من أن الفيلم، الذي حكى قصة صناعة سلاح دمارٍ شامل أودى بمقتل ما يزيد عن 200 ألف ضحية، وما تلى ذلك من صراعاتٍ سياسية ونفسية لم تنتهِ حتى اليوم، لم ينجح في إلهام اليافعين بأن يُصبحوا فيزيائيين، فيما شاطره إيلون ماسك ذلك الشعور.
كما أثار الفيلم لدى الأخير انطباعًا آخر لا يقل أهمية، وهو أن الفيلم، الذي بلغت مدة عرضه قرابة 3 ساعات -نفس الوقت الذي يحتاجه المرء لقراءة تغريدات ماسك اليومية تقريبًا- أطول مما ينبغي، ولا يجب أن يمر دون إجراء مكالمة فيديو، وتمرير المزيد من البيانات، لتنعكس بذلك مقولة "الفن مرآة الحياة"، ونمشي بخطى ثابتة نحو مشهد الفيلم الختامي.