في أولى أفلامه الروائية الطويلة يقدّم المخرج الإماراتي ماجد الأنصاري تجربة مختلفة تقف في جانب بعيد عن كلّ منجز السينما الخليجية، الشحيح عمومًا، والذي يتقاسم أفلامه ميلان: الأول يجنح نحو المحلية واستمداد الحكايات التراثية، والثاني يضع نصب عينه السينما العالمية، والأمريكية بالتحديد، لإنجاز أفلام تشابهها شكليًا من دون تقديم أي جديد في المعالجة أو الأسلوب.
حكاية فيلم "زنزانة" مجرّدة من الزمان والمكان ولكنها متجذّرة في أرض عالمنا العربي منزوع الحرية
"زنزانة" الذي يتشارك بطولته الممثلان الفلسطينيان علي سليمان وصالح بكري، مع آخرين من الإمارات والسعودية والسودان، يختار لنفسه مكانًا مميزًا بين النوعين السابقين لتقديم عمل سينمائي أصيل يأخذ محاسن كل نوع ويدمجها في عملية إبداعية أقل ما يمكن وصفها به هي البراعة ليخرج كمولود جديد تمامًا على السينما الخليجية ويدشّن نفسه كفتح سينمائي كونه أول فيلم نوعي (Genre) في التاريخ القصير لهذه السينما الناشئة.
حكاية الفيلم مجرّدة من الزمان والمكان ولكنها متجذّرة في أرض عالمنا العربي منزوع الحرية. "حدث في سجن عربي" بهذه الجملة يفتتح الفيلم حكايته الديستوبية ثم تشير روزنامة إلى عام 1987 حيث نشاهد رجلين محبوسين داخل زنزانتين متجاورتين بعد مشاجرة تمت بينهما نعرف أسبابها لاحقًا يحرسهما ضابط شرطة متعاون يفرج عن أحدهما ويبقي على الآخر (طلال) لحين الإتيان بما يثبت هويّته. تبدو الأمور في طريقها للحلّ ولا ينقصها سوى إنهاء إجراءات روتينية إلا أن شخصًا يظهر ليغيّر مصير طلال.
يدخل دبّان (علي سليمان) ضابط المناوبة بشيء من الاختلال البادي على محيّاه وابتسامة شريرة متكلّفة وشارب متملّق مرتديًا زوجًا من القفازات الجلدية السوداء وكأنه يبحث عن المشاكل. ويدرك طلال على الفور أن السجن ليس أكبر مشاكله عندما يجد نفسه متورطًا فى مخطط مجهول لإنقاذ عائلته من رجل مضطرب عقليًا. دبّان مسلح أيضًا بخنجر وبندقية وحس فكاهة ساحر ودوافعه لاستعداء طلال وعائلته غير واضحة في أغلب فترات الفيلم. في البداية يبدو وكأنه يستمتع باللعب بحياة الناس وأرواحهم، أما قواعده بالنسبة لطلال فبسيطة وواضحة: إذا فعلت ما أطلبه وأبقيت فمك مغلقا، فلن يتأذى أحد.
إلى جانب طاقم التمثيل العربي، قام فنانون أجانب بأدوار أخرى مثل المونتاج لشهناز ديلمي والموسيقى لتريفور جوريكيس والتصوير لكولن ليفيك، وهذا الأخير هو أفضل ما في الفيلم من الناحية التقنية. يولّف صنّاع الفيلم بذكاء عملهم، فمن خلال الكادرات الضيقة والإفراط في اللقطات المقربة وزوايا التصوير المبتكرة والقطع المونتاجي اللاهث والصور المنشأة بالحاسوب (CGI)، يذهب المشاهدون في رحلة عبر الجدران وتحت الشاحنات، وأحيانًا إلى الأعلى حيث السماء. كلّ هذا يجعل من الصعب النظر بعيدًا عن الشاشة، ويستثن من هذا التعميم ذلك المشهد الدموي الجروتسكي الذي يقوم فيه دبّان بذبح الضابط المسئول فى القسم ووضعه فى المرحاض والذي تباينت ردود أفعال المشاهدين تجاهه في العرض الذي حضرناه بسينما "زاوية" بوسط القاهرة.
فيلم "زنزانة" محاكاة افتراضية لظروف القهر والاضطهاد التي يتعرّض لها المواطن العربي في سجون السلطة الحاكمة
هناك مباراة تمثيلية تجري وسط الأحداث، حيث يتألق علي سليمان في دور الرجل الشرير الكاريزماتي مع نكهة "جوكرية"، تبدو جديدة على السينما العربية في تصدّيه لشخصية دبّان الغنية بتقلباتها وجنونها وفكاهتها، في مقابل صالح بكري وشخصيته الهادئة المنكمشة التي لا يصل اليأس إلى وجهها. ومن المثير للاهتمام أن النص السينمائي هو إعادة صياغة لسيناريو أمريكي بالأساس من تأليف الأخوين روكوس ولاين سكاي حتى لتبدو بعض خطوط طلال الحوارية في الفيلم أفضل إذا ما قيلت بالإنجليزية.
السيناريو ليس هو أفضل ما في الفيلم، ولا يغوص عميقًا في الجانب السيكولوجي المعتاد في أفلام النوار (Noir)، ولكنه يتضمّن بعدًا سياسيًا مهمًا في حكاية هذا المواطن البسيط في مواجهة السلطة الغاشمة المتمثلة في ضابط الشرطة. كذلك الإصرار على تصدير حالة من الكلاستروفوبيا (رهاب الأماكن المغلقة) للمتفرّج بتصوير الفيلم كلّه داخل "لوكيشن" واحد هو السجن، يحمل تحدّيًا إبداعيًا من جانب صانعي الفيلم للتغلّب على الملل والضجر الذي قد يصيب المشاهدين، ولكنه في الوقت ذاته يدخلهم في محاكاة افتراضية لظروف القهر والاضطهاد التي يتعرّض لها المواطن العربي في سجون السلطة الحاكمة، وتجنبًا لمباشرة الطرح يقوم ذلك الاختيار بدور العامل المحفزّ لخيال المشاهدين لمشابهة ومقارنة ما يجري في السجن الافتراضي مع القصص التي يقرأ عنها يوميًا حول هذا الموضوع.
"زنزانة" فيلم رشيق وحيوي يسعى لتجاوز محلية حكايته، ويحتاج السنيفيللين العرب إلى مشاهدته للوقوف على ما يمكن اعتباره بعد عشرات السنين حجر أساس سينما التشويق الخليجية.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم البحر الأبيض المتوسّط.. أحلام أفريقية موؤودة