لطالما أحببت تلك الأفلام التي تبتعد عن توزيع الشهادات وصناعة الأساطير والطواطم والبقرات المقدسة. "واجب" أحد تلك الأفلام التي تتحايد كل ذلك وتتلخص بقصة صغيرة بسيطة، تسرد عبرها قصة هذا الوطن المسلوب، بأريحية وسلاسة لذيذتين.
فيلم "واجب"، لآن ماري جاسر طوفان من التفاصيل الصغيرة، مجبولة بدقة وتركيز
الفيلم الذي أخرجته آن ماري جاسر، ولعب بطولته كل من محمد بكري وصالح بكري وماريا زريق، يمكن تلخيص قصته بـ"توزيع مكاتيب عرس". فعندما يعود شادي من إيطاليا ليساعد والده في توزيع المكاتيب في الناصرة، تتركز الأحداث في تطور العلاقة بينهما بين مكتوب وآخر، وبين معزوم وآخر، عبر فسيفساء المعازيم وفضاءات وجودهم، فنتعرف عليهما عن كثب عبر "طراطيش حكي" أحيانًا، وعبر محادثات عابرة، أو حتى جدال وجودي يحتدم بين الأب وابنه.
اقرأ/ي أيضًا: هوامش بدائية عن السينما الصهيونية
فيلم "واجب" طوفان من التفاصيل الصغيرة، مجبولة بدقة وتركيز، كأنها حيكت بصنارة وامتدت حتى صارت عباءة بحجم الوطن، لكنها عباءة تعمل كمجهر مكبر يظهر مرارة واقعنا وعفويته وفوضويته العبثية، أو فسيفساء مبنية من مربعات آدمية صغيرة، تصطف وتتقاطع لترسم لوحة كبيرة، لكنها لوحة تعكس تشوهًا بنيويًا في فضائنا الوجودي، فتحتار بين أن تسرَّ لدقة اللوحة الفسيفسائية تلك، أو تحزن لما تحمل من سواد وألم في صيرورتها.
المشاهد تتنوع كثيرًا، وفي نقطة ما يساورك الشك في بناء الحبكة، لكنها سرعان ما تعاود اختطافك كتداور المد والجزر، في لفت نظرك إلى واقعنا المهترئ من جهة، وإلى علاقة الابن بأبيه من جهة أخرى.
يتبنى دور الأب الفنان محمد بكري بدور أبو شادي، أما الابن صالح بكري فيلعب دور شادي، يتنقلان بين بيوت وحواري الناصرة لتوزيع الدعوات فتختبئ لهم المفاجآت أو يختبئان منها تبعًا للموقف. تكاد لا تجد أمرًا لا يمر عبر الأحداث المتراكمة، فتجد بين ما تجد، غزة المحاصرة في نشرات الأخبار، كلب اليهود الذي يحظى باهتمام أكثر من العرب، العازبة "المتبنتة"، طوش السيارات، أكوام الزبالة في الحارات، مغني الأعراس، التنوع الطائفي المخفي بأناقة، الجنازات العشوائية، المعازيم ذوي المكاتيب الضائعة، المكاتيب اللائقة بتواريخ صلّحت يدويًا، الشباب الذين يكنس أهلهم طيشهم تحت السجادة، أو تحت مخالفات السير المسجلة باسم غيرهم، بدل العرس، الشباب البنوتيين، علاقات ما قبل الزواج، كاهن التجنيد، وغيرها.
يطرح فيلم "واجب" موضوعين محوريين يتبلوران مع الوقت، رغبة الأب في أن "يتطور" ليصبح مديرًا وحاجته لدعوة رجل شاباك يدعمه في ترشيحه، التي تصطدم مع الابن المرتبط بصديقة ابنة عضو بارز في منظمة التحرير ذي توجهات وطنية، والذي يرفض ذلك رفضًا قاطعًا، كما وتحلّق شخصية الأم التي تركت أولادها وزوجها على ما يبدو من أجل حب جديد، وهاجرت إلى الولايات المتحدة لتفرض تلك "الفضيحة" وجودها على الأب والابن والبنت، وتتقاطع مع فكرهم وعلاقاتهم بواقعهم وببعضهم البعض، لتفجر كل التراكمات باقتراب موعد عرس آمال (ماريا زريق).
تظهر في فيلم "واجب" أغنية الشيخ إمام "يا فلسطينية"، التي يستحيل أن يتجرأ صاحب مطعم حمّص على تشغيلها
ثلاث أغانٍ رائعة مختبئة في الفيلم، الأولى "يا فلسطينية" بغناء الشيخ إمام، التي لا أعتقد أنه يوجد صاحب مطعم حمّص له زبائن من اليهود الصهاينة ومن الجنود يتجرأ على تشغيلها، والأخرى "فقاعتي الجميلة" أغنية مليئة بكل المضامين من غناء وآداء ولحن وصوت، للمطربة ربى شمشوم التي جعلتني أتخيل مشهدًا مقطوعًا لأبو شادي يلطم أمام تلك الأغنية التي هي أبعد ما يكون عن المطرب بلّوط، والأخيرة التي يمكن أن تحصل على جائزة أوسكار على "أفضل أغنية ملائمة لنهاية فيلم "مين بده يركبنا" لجوان صفدي.
اقرأ/ي أيضًا: "علي ونينو": روميو وجولييت في أذربيجان
لو وددت تشبيه الفيلم بمقطوعة كلاسيكة لشبهته بموسيقى مقطوعة "باليرو" للموسيقار موريس رافل. عندما تبدأ هادئة رائقة تعلو وتيرتها رويدًا رويدًا، لتدخل الطبول وتنبئ بانفجار عظيم، لتصل إلى قمة توترها فيتوقف العزف فجأة في المقطوعة، لكن في الفيلم يكمن هنالك في النهاية مشهد من دقيقة تقريبًا هو الحقيقة والكذب، هو الانفجار العظيم والتجلي الإلهي في أبسط أموره، هو كما أتخيله كل ما أرادت المخرجة آن ماري جاسر أن تقوله فاختزلته بهذا "التانغو" بين الابن وأبيه، بهذا التناغم المحبوك بمهارة جدّة غزلت بصنارتها لسبعين عامًا، أو تسعين دقيقة، وفي الدقيقة الواحدة وتسعين انتهى كل شيء.
اقرأ/ي أيضًا: