هل تخيّلت يومًا أن يُقدِّم الموت نفسهُ إليك، وأنت في زحمةِ أيامك ومخططاتك المستقبلية، أن يباغتكَ بزيارة، ويَعقدُ معكَ ميثاقًا، ليسَ ميثاقًا فَاوستيًّا بالضرورة، لِنقُل اتفاقًا، بأنّ يؤخر ساعة رحيلك إلى وقتٍ معلوم، شريطة أن تَصحبهُ في جولة إلى العالم، إلى الحياة التي يصرّ الناس على التشبّث بها وبشدّة.. ولكن، هل يشعرُ الموت بالضجر كَحالِ البشر؟
هل تخيّلت يومًا أن يُقدِّم الموت نفسهُ إليك، وأنت في زحمةِ أيامك ومخططاتك المستقبلية، أن يباغتكَ بزيارة، ويَعقدُ معكَ ميثاقًا؟
في فيلم "تَعرّف إلى جو بلاك" (Meet Joe Black) من إخراج مارتن بريست سنة 1998؛ سترى الموت شخصًا عاديًّا يَسبرُ الحياة بعينِ طفل، يتلقّاها بالدهشة البِكر، حيثُ اللّذة الأولى في كل شيء، ابتداءً بمذاق زبدة الفول السّوداني، والمَلبَس والكُتب، في الأماكن والشّوارع والمال، في اجتماع العائلة وأسرار العمل، في شتّى تفاصيل الحياة اليومية، في الدموع والعناق والقبل، وانتهاءً بنشوة الحبّ والتي قد تكون أسمى مراحل اللذة، الجسدية والروحية في آن معًا.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "إلهام".. لا تُكتب الروايات بالتمنّي
حتى إنه يختبرُ الموت في عيونِ من يطلبونه قبل لِقائهم به؛ في أنّات من باتوا مستعدّين للرحيل، وعزاءهم أنهم تركوا لأنفسهم صورة صافية في أذهان من يحبون، وقد احتفظوا لأنفسهم ببعض الصور الجميلة من هذه الحياة، رغم سأمها وآلامها، لترافقهم في رحلتهم الأبدية.
في ثنائية فريدة مُنقطعة النظير، مؤلّفة من أنتوني هوبكينز وبراد بيت، الموتُ والميلاد يتمشيّان معًا. الموت الآن بأسراره وغموضه هو من يطرح الأسئلة والحياة تُجيب. انطلاقًا من فكرة غرائبية وضمن إطارٍ درامي رومانسي، في فيلم تعرّف إلى جو بلاك، ثمّة تلميح دون تصريح إلى فلسفة الموت؛ ما مدى تقبّلنا لفكرة الموت؟ ما مدى تقبّل شخص مثل بيل للموت؟ وهو الشخصية الناجحة المستقيمة في أوج عطائها ونجاحها، ماذا يعني أن يجد نفسه وجهًا لوجه مع الموت، في لقاء درامي مع موته هو نفسه.
أنتوني هوبكينز باسمِ "بيل باريش" رجل أعمال بارز تظهر ابنته الكبرى في غمرة ترتيباتها لاحتفالية عيد ميلاده الخامس والستين الوشيك، مردّدة: "إن كانَ الطعامُ نثر الحفلة، فالأضواء هي شِعرها. إن كانت الموسيقى غذاء الحبّ فاعزفها".
ويظهر براد بيت في شخصيتين أبرزهما شخصية الموت الملقّب بــ"جو بلاك"، والشخصية الأخرى التي تستهلّ الفيلم متمثّلة بِشابٍّ جريء جذّاب تلتقي به ابنة باريش الصغرى "سوزان" صدفة في مقهىً قرب المحطة، لتنشأ بينهما على الفور قصة إعجاب غضّة مُقتضبة تنتهي بفراقهما دون التعرّف إلى اسمي بعضهما البعض حتى! بعد بضعة أمتار يقضي الشاب في حادث سير، فيتقمّص الموتُ شخصية الفتى لتكونَ وسيلته للقاء بيل باريش، وهنا تبدأ الحكاية. يوصي باريش ابنته بأن تكون سعيدة إلى أقصى حدّ، أو أن تبقى مُنفتِحة على هذا الاحتمال على أقلّ تقدير، يوصيها باقتفاء الحُبّ المشبَع بالحماس والإثارة، الحب الذي لا يقلّ عن أثر البرق الصاعق، إذ لا معنى للحياة من دونه. فمن قامَ برحلة الحياة ولم يُغرَم بجنون فكأنما لم يَعِش. "الحبُّ شغفٌ وهوس. أريد أن يَجرفك الحب، أن يرفعكِ إلى عالم آخر، أريدك أن تغنّي بجذلٍ وترقصي مثل الدرويش!"
يقدم فيلم "Meet Joe Black" ثنائية فريدة مُنقطعة النظير، مؤلّفة من أنتوني هوبكينز وبراد بيت، الموتُ والميلاد يتمشيّان معًا
فيلم تعرّف إلى جو بلاك هو أن تستقبل الموت في بيتك مثل فردٍ من أفراد عائلتك، تُشاطِره وجبات طعامك وأوقاتك. وهكذا يستغرق الموت المدعوّ "جو بلاك" في تفاصيل هذه العائلة، لدرجة أنه يؤازر بيل باريش ضد المؤامرة التي كادت أن تُطيح بمسيرة عمله الشريفة الناجحة وثمارها، ويبلغُ به الانسجام مع البشر مبلغًا يؤدي به إلى الوقوع في غرام سوزان ابنة بيل باريش، وتحبّه هي بالمقابل وتوافق على الذهاب معه دون أن تُدرك ماهيته ووجهته، سوى ظنّها أنه شاب المقهى ذاته! وهنا ينتفضُ الأبُ في وجه الموت، الذي لم يعد موته هو، وكانَ ليتقبّله هازئًا، ولكنه موت من أحبَّ ومنحَ حياته معنىً. يضربُ الموتُ لبيل باريش موعدًا للرحيل بنهاية حفلة عيد ميلاده المرتقبة. في خاتمة المطاف يسأل بيل باريش رجلَ الموت: "هل عليّ أن أخاف، فيجيب الآخر لا ليس مثلك من يخاف". وهنا تَبادرَ إلى ذهني فصلًا بعنوان لا تقلق من الموت، في كتاب "حياة ميشيل دي مونتين أو كيف تُعاش الحياة" لسارة بكويل، إذ تروي الكاتبة كيف أن الموت ظلّ موضوعًا حيويًّا لم يَسأم القدماء من تناوله، فَبحسبِ شيشرون: "أن يتفلسف المرء يعني أن يعرف كيف يموت". وقد كتب ميشيل دي مونتين، في أكثر مقالاتهِ نضجًا، بإعجاب عن رجالٍ مثل بيترونياس وتيجيليناس، وهما من الشخصيات البارزة في روما القديمة، ماتا مُحاطَين بالنُّكات والموسيقى والحوارات اليومية فانسابَ إليهما الموتُ ببساطة وسطَ البهجة العامة الطيّبة. وبدلًا من أن يُحوّلا حفلًا إلى مشهدِ موت، حوّلا مشهد موتهما إلى حفل. وكذا كان بيل باريش في لحظاته الأخيرة؛ كانَ يشرب نخبَ الحبِّ والاكتفاء بما أنجزه في الحياة والبهجة مع ابنتيه والناس من حولهِ في حفلِ عيد ميلاده. فعندما يدنو الموت، كما في حال بيل باريش وفي وقت معلوم قريب، لن يتّسع الوقت حينذاك لفعل الكثير. ليس بوسعك آنئذ سوى أن تُعرِّفَ من أحببتهم بمدى محبّتك لهم، أن تنتشلَ الدّلو من أعماق قلبكَ وترويهم من المشاعر الصِرفة القراح، أن تضمّهم وتعانقهم وَتشدّ على أياديهم حتى الرمق الأخير، وما تبقى من أمور بعدذاك ستحدث تلقائيًا لكَ، ولمن تركتهم من ورائك.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "حياة من ورق".. التشرد كمحوٍ وإزالة
جديرٌ بالذكر أن قصّة الفيلم مُستوحاة من مسرحية كوميدية من ثلاثة فصول بعنوان "الموتُ يأخذُ إجازة" 1924)، وهي العمل الأشهر للكاتب المسرحي الإيطالي آلبيرتو كاسيلّا (1891- 1957)، والتي عَرَفت طريقها إلى برودواي، وأُعيدَ كتابتها لتصيرَ سيناريو فيلم يحمل الاسم ذاته (Death Takes a Holiday)، وعُرِض عام 1934، ليحظى، لسوء طالع كاسيلّا، بشهرة أكبر من نسخته الإيطالية.
اقرأ/ي أيضًا: