اليوم تمر 68 عامًا على ذكرى توقيع اتفاقية جنيف الحالية في 12 آب/أغسطس عام 1949، والتي سبقتها بعقود طويلة مأساة إنسانية كبرى، عاين ميدانها رجل الأعمال السويسري هنري دونان، الذي هاله ما اطلع عليه من نتائج معركة سولفرينو التي راح ضحيتها آلاف الجنود ممن تركوا في أرض المعركة دون تلقي إسعافات أولية، ما ضاعف حجم الخسائر البشرية فيها. تلك المعركة كانت بين التحالف الفرنسي السرديني والجيش الإمبراطوري النمساوي.
كان السويسري هنري دونان، مؤسس الصليب الأحمر، سببًا في توقيع اتفاقية جنيف لأول مرة عام 1864
صحيح أن دونان لم يشهد المعركة، لكنه عاين ميدانها بعد انتهائها، وكتب كتابه الشهير "ذكريات سولفرينو"، وقد دفعته بشاعة المعركة التي وقعت عام 1859 إلى إنشاء الصليب الأحمر، والدفع لإقرار اتفاقية جنيف الأولى عام 1864، والتي طوّرت لاحقًا لاتفاقية جنيف الحالية التي وقعت عام 1949، وليحوز دونان بذلك على أول جائزة نوبل للسلام عام 1901 بالمناصفة مع الاقتصادي الفرنسي فريدريك باسي.
ما هي اتفاقية جنيف؟
اتفاقية جنيف هي أربع اتفاقيات وثلاثة بروتوكولات ملحقة بها ومكملة لها، وعليها قام القانون الدولي الإنساني الذي يجب مراعاته خلال الحروب. وتشمل الاتفاقية المدنيين والعسكريين، أي العسكريين في ميدان المعركة ولواحقها، والمدنيين في المناطق المحيطة بالمعركة وما بعدها، فهي إذًا تضمن الأسرى أيضًا مدنيين وعسكريين.
اقرأ/ي أيضًا: أسلحة جيش الاحتلال في مواجهة المنتفضين
والمقصود باتفاقية جنيف الآن، تلك التي وقعت عام 1949 من قبل 196 بالتتابع، سواءً كانت بالموافقةً على كافة بنودها، أو موافقة جزئية على بعضها مع التحفظ على بنود اُخرى.
وتشمل اتفاقية جنيف أربع اتفاقيات وقع عليها في آب/أغسطس عام 1949. وهذه الاتفاقيات الأربع المكونة لها وقعت تباعًا منذ عام 1864 حيث أول اتفاقية التي كان دونان سببًا في إقرارها، والتي تضمّنت في أهم بنودها العمل على وجود فريق طبي إغاثي وظيفته الاهتمام بالجنود الجرحى وتقديم العون الطبي لهم أيًا كانت انتماءاتهم، وجرى أوّل تطبيق لها في الحرب العالمية الأولى، وطوّرت عام 1929.
أمّا الاتفاقية الثانية فركّزت على حالة الحرب البحرية، واتفق عليها عام 1906، وأُقرت مرة أُخرى في اتفاقية لاهاي عام 1907، وهي تطوير لمبادئ اتفاقية جنيف الأولى لتشمل حالة الحرب البحرية، بعد أن كانت الأولى تتحدث عن الحرب الميدانية.
وهناك اتفاقية جنيف الثالثة، وهي تطوير لاتفاقية أسرى الحرب المقررة عام 1929، ففي حين شملت اتفاقية أسرى الحرب 97 مادة، تضمنت اتفاقية جنيف الثالثة 143 مادة مفصلة في التعامل مع أسرى الحروب، فوسّعت من نطاق مفهوم "أسرى الحرب" وقوانينه وحقوقه لتضم أشخاصًا ممن لهم الحق في المعاملة وفقًا لقوانين وحقوق أسير الحرب من أماكن احتجازٍ إنسانية وتوفير الرعاية الطبية ومنع الانتهاكات والتعذيب، وأخيرًا مبدأ إطلاق سراح أسرى الحرب فورًا بعد انتهاء الحرب أو ما أسمته بـ"الأعمال العدائية".
تفردت اتفاقية جنيف الرابعة بتركيزها على حماية المدنيين وتحديد حقوقهم إجمالًا في حالات الحرب والاحتلال
أخيرًا جاءت اتفاقية جنيف الرابعة المتفردة بتركيزها الاهتمام على حماية المدنيين في أوقات الحروب وفي حالات الاحتلال. وفيما كانت اتفاقيات جنيف الثلاثة الأولى اهتمت بالجنود والمحاربين، ركزت هذه الاتفاقية على المدنيين، بعد ما كشفته الحرب العالمية الثانية من فظائع يتعرض لها المدنيون، أوجبت إفراد اتفاقية دولية خاصة بحمايتهم، مع الأخذ في الاعتبار "تجارب الحرب العالمية الثانية"، كما نصت الاتفاقية.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو: اللاجئون الأوروبيون في الشرق الأوسط
وتضم هذه الاتفاقية 159 مادة، تنظم حقوق المدنيين إجمالًا في حالات الحرب والاحتلال، كعدم الاعتداء على المستشفيات المدنية، وحماية موظفيها وكامل طاقمها، وكذا عدم الاعتداء على القوافل الطبية أو القوافل الإغاثية، كما نصت على ضرورة حماية العائلات وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم في كافة الأوقات.
وأبرزت الاتفاقية نصًا صريحًا لحماية النساء: "يجب حماية النساء ضد أي اعتداء على شرفهن، ولا سيما ضد الاغتصاب والإكراه والدعارة وأي هتك لحرمتهن". وجرّمت الاتفاقية أعمال التشريد والتهجير الجماعي أو الفردي القسري، لكنها مع ذلك أجازت للدولة المحتلة أن تُخلي منطقة محتلة معيّنة إذا ما اقتضى الأمر ذلك لما فيه من أمن السكان، ولأسباب عسكرية "قهرية"، على أن يعاد المهجرون قسريًا إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية.
هذا وتضمنت كافة اتفاقيات جنيف بنسختها النهائية على مادة مشتركة، هي المادة الثالثة، والتي أشارت إلى سريان الاتفاقيات في حالات النزاع المسلح غير الدولية، أي الحروب الأهلية التقليدية، أو النزاع المسلح الداخلي المرتحل إلى دولة أُخرى، أو النزاع المسلح الداخلي الذي تتدخل فيه قوى خارجية إلى جانب أحد الأطراف. وتتمثل أهمية المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف، في أن معظم الحروب الحالية في العالم حروب داخلية، تسري عليها المادة الثالثة بقواعدها التي لا يجوز استثناء أيٍ من أحكامها.
اتفاق عالمي على خرق اتفاقية جنيف!
ما سبق يمثل البعد النظري في الأمر، أو ما كتب على ورق، لكن للواقع رأي آخر بالخروقات الدائمة لاتفاقية جنيف ومجمل ما ينص عليه القانون الدولي الإنساني، فلم تمنع اتفاقية جنيف أو غيرها وقوع انتهاكات جسيمة خارج إطار القانون الدولي
ولعل أبرز تلك الخروقات لاتفاقية جنيف الخاصة بالمدنيين ما حدث في حرب غزة عام 2008، من قصف العدوان الإسرائيلي الذي استمر 23 يومًا لمستشفيات مدنية ومدارس وأماكن تجمعات مدنيين راح ضحيته آلافًا منهم، من أطفال ونساء وعجائز، وتشرد بسببه آلاف آخرون بسبب التدمير الممنهج لمنازل المدنيين والمقار الحكومية ذات المنفعة العامة. ويكفي الإشارة إلى أنّ ثلثي قتلى العدوان على غزة عام 2008، من الأطفال، وبينهم 94 من النساء.
يبدو أن العالم اتفق على خرق اتفاقية جنيف وغيرها من الاتفاقيات الدولية، وتمثل الحرب السورية متعددة الأطراف أبرز تلك الخروقات
وجدير بالذكر أنّه إلى الآن لم يُحاكم أيّ من المسؤولين الإسرائيليين الذين تورطوا في هذا العدوان، مع ما فيه من خرق كامل لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين، والبروتوكولات المكملة لها.
اقرأ/ي أيضًا: هكذا تعدم إسرائيل المدنيين الفلسطينيين
الحرب السورية كذلك تمثل خرقًا مستمرًا وفاجًا لاتفاقية جنيف، إذ تعد الحرب التي تدور رحاها منذ نحو خمس سنوات، أكثر الحروب على مر التاريخ منذ إقرار اتفاقية جنيف، خرقًا للاتفاقية، مع ملايين من الضحايا المدنيين، ومثلهم من المهجرين قسرًا من المدنيين أيضًا.
يقول الواقع إذًا، إن الاتفاقيات مهما كانت محكمة، ومهما التف حولها العالم موقعين على ورق، تبقى في إطار الورق، ويظل الواقع حاكمًا لها، وليس هي الحاكم عليه، ما يدفع للتساؤل عن جدواها إذا ما كان العالم متفقًا على خرقها بعد أن اتفق على إقرارها، وهو تساؤل قد يدفع للبحث عن آليات أكثر نجاعة لحماية الاتفاقيات وضمان تنفيذها.
اقرأ/ي أيضًا:
مترجم: "أمريكا ترامب تذكر بألمانيا هتلر قبل الحرب العالمية الثانية"