أعلنت الحكومة التونسية في اجتماع وزاري طارئ مساء السبت الماضي جملة من القرارات بهدف امتصاص حالة الغضب والاحتقان على ضوء الاحتجاجات التي عرفتها بعض المحافظات بسبب غلاء الأسعار والضرائب التي أحدثها قانون المالية الجديد. وتمثلت أهم الإجراءات الحكومية في شمولية التغطية الصحية لكل التونسيين وإضافة مبلغ 100 مليون دينار (41 مليون دولار) لفائدة منح العائلات المعوزة، وتوفير قروض للسكن الاجتماعي.
أعلنت كل من الحكومة والرئاسة التونسية عددًا من القرارات لصالح الطبقة الفقيرة في محاولة لامتصاص حالة الغضب والاحتقان الواسع في الشارع
كما أعلن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي صباح الأحد، يوم عيد الثورة، أنه سيتم إحداث صندوق للكرامة لفائدة العائلات الفقيرة، ليظل الرهان على قدرتها على امتصاص الفئات الهشة وخاصة الفقراء والعاطلين عن العمل.
اقرأ/ي أيضًا: يناير تونس الساخن دائمًا.. احتجاجات مثيرة للجدل ضد غلاء المعيشة
"إجراءات ترقيعية" لمواجهة مصاعب كبرى
تُوصف القرارات الأخيرة في تونس بـ"الترقيعية"، حيث تسعى للعب دور المطفأة لحريق التحركات الاجتماعية التي أربكت الحكومة وذلك في شهر دائمًا ما يخشى الحكام في تونس هباته واحتجاجاته.
توجهت القرارات أساسًا نحو الفئات الفقيرة، غير أنها لا تزال قاصرة، بنظر الفاعلين السياسيين، على الارتقاء لمستوى المطلوب، حيث وصفت مثلاً حركة الشعب المعارضة القرارات بأنها "فلكلورية ولا ترتقي لمطالب الثورة". ولكن يظل السؤال أساسًا حول فاعلية القرارات المعلنة في التخفيف من وطأة الأعباء المثقلة على كاهل الطبقة الدنيا والمتوسطة في تونس، التي لا تتردد لتأكيد تدهور قدرتها الشرائية على ضوء الأزمة الاقتصادية واستتباعاتها.
فقد كشف تقرير مؤخرًا أصدرته مؤسسة حكومية أن نسبة التضخم في تونس سنة 2017 بلغت 6.4 في المئة، وتقدر بحوالي 12 في المائة لأسعار الخضر وبنحو 10 في المئة لأسعار الغلال.
في هذا الجانب، أعلن رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد في آيار/مايو الماضي ما أسماه الحرب على الفساد، وتم بموجبها إيقاف بعض رجال الأعمال وغالبيتهم من تجار الاقتصاد الموازي، وكانت تهدف هذه الحملة، من جملة أهدافها المصرح بها، إلى كسر احتكار عديد السلع وهي من المشاكل التي عادة ما تلاحقها أجهزة الدولة. فمثلاً، قام رئيس الحكومة بنفسه بزيارة السوق المركزي للبيع بالجملة في العاصمة لمراقبة الأسعار ومعاقبة المتورطين. ولكن رغم ذلك، ظلت الأسعار مرتفعة نسبيًا ولم يلمس المواطن التونسي تراجعها.
من جهته، يتهم اتحاد الشغل، أكبر المنظمات النقابية في البلاد، الحكومة بمساهمتها في إضعاف القدرة الشرائية للمواطن من خلال حصر مفهوم المواد الأساسية في المواد المدعومة فقط، وملف الدعم نفسه، تعترف الحكومة أنه إحدى الملفات التي يجب المضي في فتحها بغاية إصلاحه، باعتبار أن جزءًا كبيرًا من الدعم الحكومي لا يتوجه إلى مستحقيه، من طبقة فقيرة، في المقابل تستفيد فئات مرفهة من دعم لا تستحقه بالضرورة.
تعلقت الإجراءات الجديدة بالجانب الصحي من خلال تعميم الانتفاع بالخدمات الصحية، بما يشمل المعطلين عن العمل الذين يفتقدون لتغطية اجتماعية وصحية، كما تعلقت بالجانب السكني من خلال تسهيل القروض للحصول على مساكن اجتماعية، وتوجهت نحو الترفيع في المنح المادية المقدمة للعائلات المعوزة، وذلك بزيادات بسيطة أكثرها بقيمة 60 دينارًا (25 دولارًا).
يسعى الشاهد عبر هذه الإجراءات إلى تجاوز مطلبية مراجعة أحكام قانون المالية خاصة المتعلقة بالزيادات في الضرائب. وفي الأثناء، هدأت قليلًا أجواء الاحتجاجات لكن ليس تفاعلًا مع الإجراءات الحكومية، بل لأن الاحتجاجات نفسها كانت في نسق تنازلي منذ ثلاثة أيام خاصة مع غلبة أعمال الشغب في التحركات الليلية.
يسعى رئيس الحكومة التونسية عبر الإجراءات التي اتخذها إلى تجاوز مطلبية مراجعة أحكام قانون المالية خاصة المتعلقة بالزيادات في الضرائب، وهو مطلب المعارضة الأساسي
ولكن باقتصارها أساسًا على منح محدودة جدا للعائلات المعوزة، أي بتجاوز الفئات المتوسطة التي تعاني الأمرين، لا يمكن القول إن الإجراءات الحكومية ذات تأثير فارق على المقدرة الشرائية للتونسيين. وتسعى الحكومة في الواقع من خلالها لتبيان أنها في تفاعل مع حراك الشارع، وأنها تتجاوب مع أصدائه، وذلك في إطار سعيها لتمرير برامجها "القاسية" على التونسيين، خاصة في ظل حزمة ضرائب وزيادات قانون المالية الأخير.
اقرأ/ي أيضًا: رفع الدعم عن المواد الأساسية.. هل هلع المغاربة مشروع؟
المزيد من الضغط على الحكومة
من المنتظر أن تبدأ بعد نحو ثلاثة أشهر مفاوضات الزيادات في الأجور وهي مفاوضات ستكون عسيرة على الحكومة خاصة مع إكراهات المانحين الدوليين
عند مناقشة قانون المالية نهاية السنة الماضية، استطاع اتحاد الشغل إمضاء اتفاق مع الحكومة يحول دون الزيادة في أسعار المواد الأساسية، ولكن هذا الاتفاق لا يعني انتهاء دور الاتحاد، وهو أكبر منظمة نقابية في تونس، في مواجهة الإجراءات الحكومية، حيث دفعت الاحتجاجات الأخيرة قيادته نحو التصعيد مع الحكومة عبر مطالبتها باتخاذ قرارات جريئة. وفي كلمته بمناسبة عيد الثورة أمام النقابيين، تحدث أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي عن ضرورة الاستعداد للمفاوضات من جديد في القطاع العام مع الحكومة وفي القطاع الخاص مع اتحاد الأعراف.
ومن المنتظر أن تبدأ بعد نحو ثلاثة أشهر مفاوضات الزيادات في الأجور وهي مفاوضات ستكون عسيرة على الحكومة من جهة علو سقف اتحاد الشغل الذي يعتبر نفسه صوت الشغالين ومن جهة إكراهات المانحين الدوليين الذين يشترطون التخفيض في كتلة الأجور في الموازنة العامة. وكان قد بدأ الضغط على الحكومة مع دعوة الاتحاد لإعداد ميزانية تكميلية وهو ما يعني أن 2018 ستكون سنة تحدي للحكومة التي برمجت مثلًا زيادات في الكهرباء والغاز ستحاول المضي في تنفيذها ولكن رفض الاتحاد لها، إضافة للاحتجاجات الأخيرة، قد يحول دون تطبيق الإجراء المبرمج.
وقبل أيام، أعلن رئيس الحكومة يوسف الشاهد في تصريح لرويترز في أوج الاحتجاجات أنه يأمل أن تكون سنة 2018 هي "آخر سنة صعبة على التونسيين"، فيما يبدو أنها رسالة عنوانها لزوم التضحيات خلال هذه السنة وذلك مع شحنة طمأنة، ولكن يظل ذلك رهين استرجاع الاقتصاد التونسي عافيته وبالتالي تخفيف الضغوط الجبائية على المواطنين، وهو ما تسعى إليه الحكومة بحق السنة القادمة، ليس فقط من منطلق اقتصادي اجتماعي بحت بل كذلك من منطلق سياسي باعتبار أن 2019 هي سنة الانتخابات.
اقرأ/ي أيضًا:
6 سنوات في مسار ثورة تونس.. تحديات تنموية حارقة
كيف غيرت سياسات التقشف حياة الناس؟