هنا قصائد مختارة لشعراء تركوا بصمتهم في مسار الشّعر في بلادهم، وفي العالم أيضًا، وجميعها تحملُ ثيمةَ الحرب، وتدور حولها. تقتربُ وتبتعد وتبقى في فلكها، حيث الموت والخوف والظلام.
خورخي لويس بورخيس: مساءٌ حفَرَ وداعًا
مساءُ الحرب
مساءٌ حَفَرَ وداعًا.
مساء حاد ولذيذ ومرعب مثل
ملاك مظلم.
مساء عندما عاشت شفاهنا في الحميميّة
المجرّدة من القُّبل.
كان الزّمن المُقدَّر يفيض عناقًا بلا جدوى.
كنّا نُغدق معًا الشّغفَ، ليس من أجلنا
بل من الوحدة الّتي صارت قريبة.
كان الضوءُ يصدُّنا
هبط اللّيل عَجُولًا.
ذهبنا حتّى السّياج في جاذبية الظلّ
الّذي أراحته نجمة.
كمن يعودُ مِن حقلٍ ضائع، عدتُ من عناقك.
كمن يعود من بلاد السّيوف والقتال، عدت من دموعك.
مساء حيّ دائمًا
مثل حلم بين مساءات أخرى.
مارينا تشفتايا: الحرب.. الحرب
1
لو كنتم تعرفون أيها المارّة،
المشدودون بنظرات أخرى جذابة
مثل نظرتي، كم نارًا أشعلت،
كم حياة عشت من أجل لا شيء،
وكم حمية، كم اندفاعة
وفّرت من أيّ ظلّ مفاجئ أو ضجّة...
وقلبي مشتعل عبثًا
مهجورٌ، يتساقط رمادًا.
آه، القطارات المتطايرة في اللّيل
حاملة أحلامنا في المحطّات.
لو كنتم تعرفون كلّ ذلك،
وأنا عارفة، ما كنتم تستطيعون أن تعرفوا.
لماذا كلمتي بهذه الفجاءة
في دخان السّيجارة الأبديّ
وكم من حزن أسود
يزمجرُ تحت شعريَ المضيء.
2
الحرب، الحرب!
بحور وأيقونات
المهاميز تقعقع،
لكن ليس لي ما أفعله للقيصر
ولا لخلافات الشعوب.
كما على حبل مشقوق
أرقص
أنا ظل ظل
أنا قمرية
بين قمرين مظلمين.
فيليب جاكوتيت: طرُقُ الهاوية
أنا الشاعر الملتجئ
أنا الشاعر الهامشي
الذي بالكاد يعاني
أتجرأ على رسم طرقٍ في الهاوية.
في الوقت الحاضر، المصباح مطفًا،
يدٌ أكثر شرودًا،
مرتعشة
أعاود البدء ببطء في الهواء.
العنب والتين
تحضنها في البعيد الجبال
تحت الغيوم البطيئة
والطراوة
أما زال في إمكانها مساعدتي؟
تأتي لحظة ينام فيها البكر المنهوك
نرى من يومٍ لآخر
خطوة أكثر ضياعًا.
لم تعد المسألة تتعلق بالعبور
كما الماء بين العشب:
فهذا لا يدور.
كيلي ديمولا: السّلاحُ ذاته دائمًا
الصَّباحُ وكلّ أشياء العالم
قائمةٌ
على مسافَة المبارزةِ المثاليّة.
لقد اختير السّلاح
السّلاح ذاته دائمًا
حاجاتك، حاجاتي
والذي كان يفترض أن يعدّ: واحد، اثنان، ثلاثة
أطلقوا النار.
لقد تأخّر
في انتظار مجيئه
جالسينَ على المقعد ذاته
ننظر إلى الطّبيعة.
الحقلُ في عزّ نضجه
الخضرةُ على فجورها
بعيدًا عن المدن
كانَ حزيران يطلقُ صراع الوحشيّة المنتصرة
يقفزُّ يتمسّك بغصن شجرة
وبإحساسات طرزان في فيلم قصير
يطارد الوحوش غير المرئية
في دغلٍ صغيرٍ في حكاية.
كانت الغابة تعجُّ بعصافير
وأفاعٍ.
تدفّق مسمومٌ من التّناقضات.
يسقط الضّوء
على كلّ ما هو غيرُ ضوء.
ستانلاس رودنسكي: فارسٌ ضالٌ في زمنٍ ضائع
1
بعضهم يحسبني فاتحًا
ويرى في عيني لذة المحاربين الفتيان
أنا ذلك الذي يهرب ولا يعود
وأنا الذي يبقى
فارسًا ضالًا في الزمن الضائع
أحط رحالي في بقاع محرمة
أنا الصياد الوحيد
فرائسي كثيرة هاربة
أطاردها في إدغال تحت البحر
بين أزهار الصبر والزبد
وأسافر من أجل مشاق محفوفة بالخطر
درب الليل مرشدي
حتى مرافئ الأسطورة
حيث يرن نداء الأبعاد الشمالية
وأرحل
راكب في سفينة وهمية
نحو أقصى بحار العتمة
رأس اللانهائي.
2
قلب الضوء في عيني
أدخل في العالم المدرج
وافتراضية المرايا
منحنيًا على شرفات الزمن
أسمع الهطول البطيء للقاع البارد
الذي يسقط من السديميات
أمشي في جَمَال الحقول العقيم
أدوس درجات وادي المقابر
الملوك نيام في الكريستال
أسياد العالم صامتون حيث تتكوّن الأشكال
المروبصون يحرسون محراب الجزيرة المغلقة
حيث تتفتح أزهار النوم المضطربة
الجلبة المُشعة للنجوم الفتية تُثملني
نسيت جاذبية الأرض
الأنا تسقط في قعر البحر
والعتمة الأبدية تستعيد يقظتها.
3
متحركًا في العنصر المتحرك
أنا مسار الحرية
تلميذ فارغ لشمس دوارة
إلى أي شبيه آخر
يكثر الضوء.
اذهب على غرار "المسافرين النبلاء"
صورة فاسدة للمتساوين
عابرًا منسجمًا ورغبة كل واحد
شبيه
إنما من هُوِيّة الرؤية تتضاعف النظرات.
أول رؤية تتبعها ثانية
فقاعة اللحظة التي تنشق
عين النهار المغلقة تظن
قوة الفضاء الشفافة
أعماق ملهمة لهواء الزمن.
إلياس كانيتي: الضّحيّة التيّ لا تشكُّ بشيء!
1
أيهما أكثر تقديسًا، الضحية التي لا تشك في شيء
أو الضحية الواعية، ابراهيم أم إسحق،
أو أي ميت أو المسيح، الحيوان
أو الجندي؟ إنه السؤال الكبير لكل
عقيدة، ومن يجرؤ على الحسم؟
2
هل يمكن للغة لا تعرف كلمة الموت
أن تكون قابلة للحياة؟
3
اروِ، اروِ، حتى يتمنى أحد لا يموت أيّ شخص
ألف
ليلة وليلة، مليون وليلة.
بينيتي هولايا: بلادٌ احتلّها جنودٌ أجانب!
1
في الأماكن المقفرة تجرؤ على أن تهمس في نفسك:
لا مساومة على وجودي،
لن أنفصل عن هذا الكل،
لن ألبس من جديد ثياب الشهداء.
ستيفان تمزق،
الأمهات المعظَمات غرقن في المستنقع،
في كل الأصقاع معسكرات اعتقال
ضحايا دائمًا.
في كل شارع مددت يدك المفتوحة،
بحثت عن العيون التي تنسيك نظرتك،
وفي انتظار الصدى
كل شيء يبقى بلا جدوى.
تجري والأرض تنسحب من تحت قدميك
الأسواق تكسد
الظلال تتصادم
وتبقى عاريًا
أمام نفسك، ذلك
لأنك لست سوى لنفسك.
في بلادك احتلها جنود أجانب
ذبحوا أهلك، ولغتك الأم...
تغرق غرفة التعذيب
وجسدك يعرف اسم الأعداء.
العميان لا يُبصرون، والصمّ لا يسمعون
الطاغية ليس سيد نزواته الخاصة.
من يُقطع يزدهر بين الجموع
والبراءة
الطيور المهاجرة تقع في الشباك المنصوبة
الريح تغرق في الطريق،
ولا أحد ينجو من الواقع.
تحتل موقعًا أمام الدور العمومية
وتجيب بصراحة عن الأسئلة الملتبسة.
لا يمكن الشوارع أن تختفي،
ولا أن تسقط المنازل من أسسها
النظرة الهادئة ترى إلى أعمق ما في المنازل
غالبًا ما سيستمر الساخرون في السخرية
ودائمًا أقرب منك
وينتهي بهم الأمر إلى البقاء
ثم وذات ليلة
يدٌ تحط على كتفك.
رجل على السطح
من فوق المدينة المداخن المغطاة بالسواد
ظلال تسرع منذ السطوح.
2
أنت أحمر مثل دم
أنت أسود: قرن من اليأس،
نهر في مستنقعات، وَحْل على القلب.
تختفي النجوم في أعالي السماء،
وقد أتعبها ظل الصمت.
الفلاح يتقدم بخطى ثقيلة
ويتكهن بأن الزمن غدًا سيدرك نهايته.
المنازل في الحقل كالفطر،
صرخة تصعد من غرف المستشفيات
الجثث تتعفّن في المقابر،
حيث تتبرعم سجادة من الرغوة الزَلِقة.
لكن الفلاح والمرضى في غرفهم،
ها هو نشيد هذه الأرض،
من العجرفة المشدودة كَسَهم
ها هو نشيد هذه الأرض
حيث يولد كل شخص من الألم،
في العذاب كما تفعل الحيوانات، ومن
دون أن تعرف،
عمياء كالشحاذين ذوي الحمى
الغبية، يولدون ليتركوا كل شيء ذات يوم.
وتأجيل قوة اليأس إلى الغد
الذي يمسكنا خنجره الثقيل:
نشيد للوطن، نشيد لهذه الأرض
التي تحفظ بقوة أحلامنا.