من القضايا الأساسية التي لطالما ألحّ عليها عالم الثقافة والفن والأدب: قضية فلسطين، وقضية التنوير. قضية التنوير ربما هي الأسبق زمنيًا في جدول الاهتمامات، حيث بدأت مع بدايات القرن العشرين من لحظة الاحتكاك بالمستعمر الاجنبي. أما قضية فلسطين فقد بدأت تأخذ قوتها مع الثورة العربية في فلسطين سنة 1936 وكانت من أهم القضايا التي تبنتها جماعة الإخوان في مصر، ثم تطورت القضية مع قرار التقسيم الصادر عن الامم المتحدة عام 1947 لتصبح هي القضية الشعبية الأولى، ثم حرب فلسطين 1948، وما حدث للجيوش العربية في ذاك الوقت.
هل القضايا التي لا تُحلّ، يجب على الثقافة الاستمرار في رعايتها والسير مع تعقيداتها المتزايدة بمرور الزمن؟
أصبحت القضيتان من القضايا المأزومة، متعددة الجوانب التي لا يوجد لها حل، والاثنتان ولدتا نتيجة الاحتكاك بآخر، سواء كان هذا الآخر مستعمِرًا أو محتلًا. وهنا ينبثق سؤال: هل القضايا التي لا تُحلّ في الواقع المليء بالتناقضات يجب على الثقافة الاستمرار في رعايتها والسير مع تعقيداتها المتزايدة بمرور الزمن، بحيث لا يُسمح لقضايا أخرى لها نفس الدرجة من الأهمية بالظهور؟ ليس لصالح تعدد المناخ الثقافي والفكري فقط، ولكن من أجل استمرار الانواع الأدبية والثقافية، التي من الصعب أن تبني ضميرها فقط على قضية واحدة أو اثنتين؟
اقرأ/ي أيضًا: العراق.. بيئة خصبة للإفلات من العقاب
استمرار هاتين القضيتين يشير إلى ملمح مهم، هو ضغط العامل السياسي على الثقافة والأدب، بوجه عام. ثاني الأشياء أن المرجع الحديث لعلاقتنا بالآخر له ذاكرة مؤلمة لا تقدر أن تتجاوز ما حدث، شيء أقرب "للتثبيت" الذي يتحدث عنه علم النفس. كما أن هاتين القضيتين أصبحتا من أولويات الدولة القومية، بل ربما من القضايا التي تحفظ ماء وجهها، والتي تسعى لأن تدعم جهودها من خلال تبني –أو استغلال- مثل هذه القضايا وعلاقتهما بالجماهير.
لقد تعطّلت مسارات كان يمكن للأدب بشكل عام السير فيها، فأمام قضية فلسطين وقضية التنوير، تشعر بأنك أمام دائرة مكرورة لا تؤدي إلى شيء، حائط سدّ، من الصعب تجاوزه أو الإسهام فيه، ولا يتبقى أمامك إلا الاتكاء على المشاعر الوطنية أو التنصُّل منها. فهي قضايا لا يمكن حسمها بشكل فردي، وفي الوقت ذاته لا يمكن الاطمئنان للرأي الجماعي فيها. ما بين الرأي الفردي والرأي الجماعي، هناك منطقة تملؤها الثقافة بخيارات وتجارب في الغالب تكون مفيدة لتجاوز الإرتباك الحادث تجاه هاتين القضيتين.
بين سطوة وميراث هاتين القضيتين، وبين غياب أفكار أخرى لها صفة الكُلّية والجوهرية، وقفت الثقافة والأدب في منطقة متوترة ليس بها مثيرات أو قضايا مصيرية. لا أعني أن هاتين القضيتين ليستا مهمتين، ولكن ربما كانت هناك مصادفة أو مصلحة ما في استمرارهما، كقضايا غير قابلة للحل، على المستوى القريب وبالتالي أصبحت قضايا مُصدِّرة لليأس. إلى أن جاء كانون الثاني/يناير 2015 بثوراته الشعبية وأعاد للأجواء قضية الاستبداد السياسي وفتح أمام الشعوب –ومن داخلها المثقفين- كوة للتنفس، ولكن للأسف جاءت مشروطة بشروط لعبة السياسة وتبدّل الوجوه والأقنعة مع الابقاء على أدوات القمع والافساد السياسي على حالها، بل وربما محاولة تطويرها عملًا بمقولة "لا يلدغ حاكم من ثورة مرتين".
اقرأ/ي أيضًا: حين قررت ألا أكون متدينة!
ليس صحيحًا ما يقال أن الفقر والقهر قد أثمرا كُتّابًا عظامًا في مختلف العصور والمجتمعات مثل دوستويفسكي ومايكوفسكي
وبالنظر إلى الأوضاع الراهنة في العالم العربي، ربما يمكن فهم الحديث عن إعلان موت المثقف العربي والبدء في إقامة تمثال تذكاري له، بعد أن داهمته أنظمة الحكم وجعلته منقسمًا على نفسه لا يدري أي طريق يختار، إلا من رحم ربي. ولكن أليس وضع المثقف وحده في قفص الاتهام العربي كلما نزلت بنا كارثة يمثل عملاً لا يتصف بالشجاعة أمام الذات وأمام الغير؟ المثقف مسؤول – حتى عن الجرائم التي لم يسمع بها كما يقول سارتر- ولكنه في سلم المسؤوليات يأتي ترتيبه الأخير. فبعض أنظمة الحكم أولًا، ثم المناخ الشعبي الذي سمح لهذه الأنظمة أصلًا بالوجود، ثانيًا، هما المسؤول الأول عن كل ما جرى ويجري.
فالمثقف، أي مثقف، لا يستطيع الإنجاز الإبداعي إلا في ظل الحرية، وليس صحيحًا ما يقال أن الفقر والقهر قد أثمرا كُتّابًا عظامًا في مختلف العصور والمجتمعات مثل دوستويفسكي ومايكوفسكي وغيرهم. إننا ننسى مرتين أنه لولا الفقر والقهر لأعطى هؤلاء الكتاب عطاء أعظم، وأنه لولا الفقر والقهر لما أصيب معظمهم بالجنون ولما أقدم البعض الآخر على الانتحار. وفي ثقافتنا العربية مئات من دوستويفسكي ومايكوفسكي، مئات المعذبين حتى الجنون، والفقراء حتى الموت، والمقهورين حتى الانتحار.
اقرأ/ي أيضًا: