ظهرت القنوات الدينية لأول مرة في العام 1998. كانت قناة "اقرأ" أول محطة تفتح الباب لأخريات تباعًا. كان الشيخ صالح كامل، مالك لشبكة "ART"، وراء إطلاقها رسميًا. لم يهدف حينها إلى أي رسالة دينية محددة سوى استكمال مجموعة قنواته المتخصصة في الفن والدراما والسينما والدين. وبعد نجاح قناة "اقرأ"، لحقت بها قناة "الرسالة" للسعودي الوليد بن طلال، لاستكمال دورة الإنتاج الفضائي لقنوات "روتانا".
مهدت قناة "اقرأ" للقنوات الدينية وتحولت بعض قنوات الرقص والتعارف إلى محطات ملتزمة بالشريعة
من هُنا بدأت سلسلة القنوات الدينية في الظهور بعد أن وجد أصحابها في تجربة "اقرأ" و"الرسالة" و"المجد" فرصة هائلة للتربّح، فظهرت قنوات "الناس" و"الخليجية" و"الحكمة" و"الحافظ" و"الرحمة" و"البدر" تباعًا. وكانت قناتا "الناس" و"الخليجية" في البداية قناتين ترفيهيتين للرقص والأغاني وعرض حفلات الزفاف وطلبات التعارف بين الجنسين، وكان يرأس مجلس إدراتهما رجل الأعمال الخليجي علي سعد (مالك شركة "الأوتار الذهبية للإنتاج الفنى والموسيقي). وقد أنشأ سعد القناتين في العام 2006، ثم قرر تحويلهما فجأة إلى قناتين دينيتين.
اقرأ/ي أيضًا: ميشال أبو سليمان: "الدعسة" الناقصة بألف
كانت قناة "الناس" تستخدم الموسيقى ويظهر عليها نساء ويعملن بها، ولم تبدأ القناة من اللحظة الأولى بمنهج سلفي واضح ومحدد كانت تعتمد على رجال دين تقليديين دون توجه سلفي أصولي كما حدث في ما بعد، وهو ما وصفه حازم صلاح أبو إسماعيل قديمًا بقوله عن انتشار القنوات الدينية:"هي معظمها ملهاش مناهج. معظمها إن الشيخ وجدي ما شاء الله له قبول عند الناس، فتعال أقعد اتكلم فيتكلم الشيخ يمين أو شمال".
وكان أول من ظهر على تلك القنوات مشايخ من أمثال أحمد عبده عوض الصوفي والرضواني وسالم أبو الفتوح، وكان الأخير يقدم برامج في تفسيرالأحلام، ويظهر يوميًا بالساعات على القناة حتى تخلوا عنه وعن عبده عوض ومحمود عبد الرازق الرضواني لصالح محمد حسين يعقوب وأبو إسحاق الحويني ومحمود المصري ومحمد حسّان. وقد مارس أولئك الأخيرون ضغوطًا كبيرة لمنع أحمد عبده عوض من الظهور على القناة هو وغيره من غير المنتمين لفكرهم السلفي، وطالبوا أيضًا بـ"استبعاد النساء من الظهور ومنعهن من العمل داخل القناة"، وهددوا بالانسحاب من القناة بشكل جماعي، فاضطرت القناة للاستجابة لهم، وشكَّل هؤلاء لجنة سلفية لمراجعة برامج القناة والتحكم في من يظهر ومن لا يظهر، وبدؤوا مسلسل نشر السلفية الأصولية على قناة "الناس" بمنع شيوخ القناة القدامى أمثال أحمد عبده عوض والرضواني.
أثار انحياز القناة إلى شيوخ السلفية الأصولية غضب المشايخ الذين كانوا يريدون نصيبهم في كعكة البرامج التلفزيونية، وشنّ سالم أبو الفتوح هجومًا شديدًا على شيوخ السلفية الذين سحبوا من تحته بساط الشهرة والمال، بعدما مهّد هو وغيره الطريق لوصول القناة إلى الناس، واصفًا إياهم بـ "شيوخ سائقي التوك توك والمكوجية والحلاقين الذين أصبحوا شيوخ فضائيات". ولكن الهجوم الأعنف على القناة وشيوخها جاء من قبل الرضواني الذي خرج بفيديو طويل على "يوتيوب" يروي فيه فضائح القناة، منذ كان يدخل بابها المجاور لباب قناة "الخليجية" للرقص، التي يملكها نفس مالك قناة "الناس". ويحكي الرضواني تفاصيل خلاف محمد حسّان مع قناة "الناس" في ما بعد على تقسيم غنائم وأموال القناة التي يرى حسّان نفسه جزءًا أساسيًا في صناعتها، بعد أن قدّم على القناة برامجه الأشهر "أحداث النهاية" و"أمراض الأمّة" و"فضفضة"، التي تناول فيها مجموعة من الخرافات الخاصة بالمسيح الدجال والمهدي المنتظر وحرب "هرمجدون" وعذاب القبر والسحر والحسد وما إلى ذلك من الأساطير التي تستهوي الجماهير الغفيرة.
طلب حسّان من رئيس القناة تقسيم الأرباح بينهما بالتساوي، بحسب ما يروي الرضواني، وهو ما تم رفضه وأدّى في النهاية لترك حسّان للقناة وإنشاء قناة "الرحمة" الخاصة به عام 2007، وسوَّق حسان خروجه من القناة باعتباره اعتراضًا على ظهور عمرو خالد بها، على أساس أنه يرى الأخير "صاحب منهج منحرف ويقبل بظهور النساء والموسيقى في القنوات".
تحولت القناة من سلفية إلى مقربة من نظام السيسي وبيد ضباطه بإشراف مفتي مصر السابق علي جمعة
والمثير للدهشة أن حسّان بعدما ترك قناة "الناس" بهذه الحجة، ظهر فيما بعد على قناة "اقرأ" وقناة "الرسالة" وهما قناتان يظهر بهما عمرو خالد، وتطلّ منهما النساء، وتعج بهما الموسيقى، وهو ما يكشف فراغ حجة حسان من المصداقية في الرحيل عن القناة، شأنه في ذلك شأن كل الذين رحلوا عن القناة لإنشاء قنوات جديدة بحثًا عن ربح جديد كعاطف عبد الرشيد، مدير قناة "الناس" الأول الذي رحل عنها وأنشأ قناة "الحافظ" التي خصصها في البداية لتحفيظ القرأن وتفسيره، ثم جعلها بعد ثورة يناير منبرًا لمحمود شعبان وعبدالله بدر ونبيه الوحش، لتكفير كل المنافسين لجماعة الإخوان المسلمين، فكانت تلك القنوات الدينية جميعًا لا تتدخل في السياسة قبل الثورة إلا بالتأييد للنظام، وهو ما أعلنه صفوت حجازي وأبو إسماعيل، اللذان سعت قناة "الناس" إلى تلميعهما بعد رحيل حسان عنها.
اقرأ/ي أيضًا: أول محجبة في قناة عون.. استثمار النفاق السياسي
قال صفوت حجازي في مقال له في 2010، بعنوان "قناة الناس..حقيقة لا دفاع": "قناة الناس تخضع لرقابة أمنية من جهاز أمن الدولة في مصر، ولا يظهر شيخ من الشيوخ على القناة إلا بموافقة صريحة من الأمن أو بموافقة سكوتية من الأمن". وهو ما أكده أبو إسماعيل في حوار له مع جريدة "صوت الأمة"، قائلًا: "القنوات الدينية تنفذ تعليمات الأمن، وهاجمت الشيعة بتعليمات أمنية، والتدخل الأمني كان دائمًا وغير منقطع بين إدارات القنوات وبين الضابط المسؤول في أمن الدولة، وهذه مسألة يومية مستمرة". وكان صفوت حجازي وخالد عبد الله من الدعاة الجدد الذين ظهروا في البداية مع عمرو خالد وخالد الجندي، ثم تحوّلا فجأة مع انتشار القنوات السلفية إلى سلفيين أكثر من السلفيين أنفسهم، فبعد ثورة يناير غيّرت قناة "الناس" خريطة برامجها وخصّصت لخالد عبد الله برنامجًا يوميًا في السياسة، يهاجم منه الشيعة والمسيحيين والسياسيين، ويحرّض عليهم ويصفهم بأبشع وأسفل الأوصاف، وتصدّر المشهد طيلة فترة حكم الإخوان حتى تمّ القبض عليه على الهواء مباشرة، وأغلقت القناة نهائيًا بعد رحيل مرسى وفضّ رابعة.
عادت قناة "الناس" مرة أخرى بعد رحيل الإخوان، ولكن بثوب جديد. حيث رحل عنها السلفيون واستبدل بهم مالك القناة الجديد مجموعة من الدعاة الأزهريين والمجهولين، بقيادة علي جمعة، مفتي مصر السابق، الذي حوّل القناة من فكر سلفي واضح ومباشر في تطرفه إلى فكر أزهري أشعري صوفي باهت وغير مؤثر.
وتعتمد السياسة الجديدة للقناة، كما يرد في تعريفها الرسمي، على "التعريف بهوية الدين الإسلامي على حقيقته، بعيدًا عن الأفكار المُنفّرة، بفعل تخبُّط الشيوخ، خصوصًا من غير الأزهريين في الأفكار التي يبثونها للمشاهد". ويستكمل القائمون على القناة شرح "رسالتها" وضرورتها بالقول إنه "بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو، كان لابد من ثورة دينية دعا لها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ويقودها الأزهر الشريف، بقاماته من الشيوخ، الذين يعرفون مكنونات الدين السمح، وكيفية إيصاله بشكل سهل وبسيط لعامة الشعب من الناس، حتى لا يستغلهم أصحاب المصالح، ومن لهم مآرب أخرى، وحتى لا نرى مشاهد الذبح البشعة، التي برّرها أصحابها بأنها في صحيح الدين".
وتزعم القناة أنها تحارب الفكر المتطرف، لم تقدّم حتى الآن برنامجًا واحدًا لتفكيك أفكار التطرف والإرهاب، أو حتى برنامجًا يتناول بشكل تحليلي جاد حركات وجماعات الإسلام السياسي، وكل ما قدّمته القناة من يوم إعادة بثّها إلى الآن مجموعة برامج في الإنشاد الديني الصوفي وبرامج لتلميع شيوخ الأزهر، وأخرى للدفاع عن الفقهاء والبخاري وكتب الحديث ضد من تسمّيهم "أعداء الدين"، ولم يظهر على القناة إلى الآن شيخ يعلن ولو بالمواربة عن تراجعه أو إعادة التفكير في تلك الكتب وما تتضمنه من مسائل إشكالية وخلافية.
اقرأ/ي أيضًا: "عسكرة" الإعلام المصري.. لم تعد الموالاة كافية!
وتُخصّص القناة برنامجًا دائمًا عن الحجاب بعنوان "مُحجبة" لعرض نماذج من النساء المحجبات الناجحات في الفن والإعلام والتسويق والتعليم والأزياء والرياضة، بالإضافة لحلقات منفصلة في باقي البرامج الأخرى للترويج للحجاب ومهاجمة الدكتور سعد الدين الهلالي على تصريحاته الخاصة بالحجاب، ويُعتبر الهلالي هو الشخص الوحيد تقريبًا الذي انشغلت القناة بالهجوم عليه أكثر من الهجوم على الإرهابيين أنفسهم. والمثير للدهشة أن القناة شهدت تراجعًا كبيرًا في نسب المشاهدة والتأثير طيلة السنة التي يظهر على شاشتها الأزهريون، وهي مفارقة تستدعي العديد من الأسئلة الخاصة بمدى قدرة وإمكانية الأزهر وشيوخه على التأثير في المجتمع المصري والعربي، فمن قبل سيطرة الأزاهرة على "الناس" وهناك قناة "أزهري" التي أنشأها خالد الجندي، ولم يظهر عليها سوى شيوح الأزهر، ولم يستطع أحدهم سحب البساط من تحت أقدام السلفيين أو التأثير في المجتمع بنفس مقدار وحجم تأثيرهم، لا في وجود السلفيين ولا بعد رحيلهم.
ويرى البعض أن عدم قدرة رجال الأزهر على بناء قاعدة جماهيرية لقناة "الناس" كتلك التي كانت من قبل، يرجع إلى ميل جماهيري ناحية شيوخ السلفية أينما ذهبوا، ويدلّلون على ذلك بقولهم إن الناس لا يصدّقون رجال الأزهر باعتبارهم شيوخ الحكومة ووعّاظ السلاطين، فهم موظفون في النهاية، بينما السلفيون يظهرون كأصحاب رسالة نذروا حياتهم لخدمة الإسلام ونشر دعوته بين الناس. وفي الوقت ذاته، يرى البعض أن ثمة ميل غامض من الأغلبية ينحو بهم إلى الانحياز لوجهة نظر سلفية في ما يخصّ أمور العقيدة، بعيدًا عن دبلوماسية الأزهريين الأشاعرة ونزوعهم إلى الإجابات الفضفاضة وغير الحاسمة. وأيًا كان الرأي الصحيح، فالمؤكد أن التأثير الهائل لقناة "الناس" بثوبها السلفي المتشدّد تحوّل في بعثها الأزهري الجديد إلى خواء يبحث عن رصيد جماهيري، ويبدو أن هذا الوضع المتدهور سيستمر.
اقرأ/ي أيضًا:
حسام بهجت.. العسكر في مواجهة صحافة التحقيقات
"أون لايف".. خرجت من مصر لتلميع صورة بشار الأسد