في كلّ بطولة كرويّة نسوية كبرى، يسود جدل كبير في الأوساط الرياضية حول المساواة بين الجنسين من ناحية الأجور والتغطية الإعلامية، فما هو الأفضل، المساواة أم العدالة؟
فكرة القدم هي للجميع، للفقراء والأغنياء، والأهم من كلّ ذلك أنّه للنساء كما للرجال أيضًا، وبما أن الرياضة الأكثر شعبيّة في العالم لم تعد مجرّد كرة قدم، صارت صناعة تدرّ المليارات من الدولارات، كان من حقّ اللاعبات طلب المساواة في أجورهنّ ومكافآتهنّ، ومعاملتهنّ كما يتم التعامل مع فرق الرجال.
ولو قارنّا بين بطولتي كأس العالم للرجال 2022 وكأس العالم للسيدات 2023، سنجد أن الفجوة واسعة للغاية بين البطولتين من النواحي كافّة، المالية منها والإعلامية وحتى الجماهيرية، وبالمقابل تكابد اللاعبات كثيرًا حتى تصل إلى مرحلة الاحتراف، ويتعرضّن للكثير من الحواجز والعقبات في سبيل تحقيق أحلامهنّ أو رفع راية بلادهنّ عاليًا.
في كأس العالم للرجال 2022، كان مجموع الجوائز المقدمة يقارب 440 مليون دولار، بينما الرقم الخاص ببطولة السيدات 2023 هو 110 مليون دولار
وقد تواجه اللاعبة مصاعب لا تمرّ في مسيرة لاعبي الرجال، كالتوقف عن ممارسة اللعب أو حتى الاعتزال مبكرًا بسبب الإنجاب، وهو ما يفسّر اعتزال الكثير من نجمات الرياضة بسنّ مبكّر، عكس اللاعبين الرجال.
الفجوة المالية بين بطولات الرجال والسيدات واسعة للغاية، ففي كأس العالم للرجال 2022 كان مجموع الجوائز المقدمة يقارب 440 مليون دولار، بينما الرقم الخاص ببطولة السيدات 2023 هو 110 مليون دولار، ينال البطل في مونديال الرجال قرابة 42 مليون دولار، فيما ينال المنتخب الفائز بكأس العالم للسيدات قرابة 4.29 مليون دولار، وفي مونديال الرجال يحصل المشارك في دور المجموعات على 9 مليون دولار أمريكي، وبالنسبة للسيدات 1.5 مليون دولار.
ومع ذلك تعتبر الجوائز المالية المقدمة في كأس العالم للسيدات غير مسبوقة، ففي النسخة السابقة استضافتها فرنسا عام 2019، كان مجموع الجوائز المالية يساوي 30 مليون دولار أمريكي، والمبلغ زاد إلى قرابة 110 مليون دولار في النسخة الحالية.
وفيما يخص الجوائز المالية للاعبات، سيمنح الفيفا كل لاعبة تشارك في البطولة 30 ألف دولار أمريكي، ستزداد مكافئتها المالية إلى 60 ألفًا فيما لو بلغت دور الـ16، و90 في ربع النهائي، و165 ألف دولار لو نالت المركز الرابع، و180 للثالث، و195 ألف للوصيف، و270 ألف دولار لو توّجت باللقب.
هذه المبالغ المالية لا يمكن مقارنتها بجوائز الرجال، الذين ينال العديد منهم مبالغ مماثلة كراتب أسبوعي في أنديتهم، ومع ذلك يعتبر هذا المبلغ غير مسبوق في تاريخ الرياضات النسوية، حيث يبلغ معدل أجور اللاعبات السنوي مع أنديتهم قرابة 14 ألف دولار أمريكي فقط.
الاتحاد الدولي لكرة القدم عبر رئيسه جياني إنفانتينو، كثيرًا ما جاهر برغبته في تحقيق المساواة بين جوائز النساء والرجال، إنفانتينو قال في تصريح سابق إن الفيفا قدم بالفعل مثالاً يحتذى به فيما يخص المساواة، وهو زيادة أموال الجوائز التي ستتقاسمها الفرق الـ 32 في كأس العالم للسيدات 2023 إلى ثلاثة أضعاف المبلغ المدفوع في عام 2019، وعشرة أضعاف ما تم دفعه في عام 2015، قبل انتخابه رئيسا للاتحاد الدولي لكرة القدم، ومع ذلك "إنه لا يزال يتعين على الفيفا بيع الحقوق الإعلامية للبطولة لبعض الأسواق الرئيسية، لأن العروض كانت مقيّمة بأقل من قيمتها الحقيقية".
معدل أجور اللاعبات السنوي هو 14 ألف دولار، ولو فازت لاعبة بكأس العالم ستنال 270 ألف دولار، وهو أمر قد يكسبه اللاعب كراتب أسبوعي مع ناديه
مشكلة بيع حقوق كأس العالم للسيدات أرقت الفيفا، والذي طالب بمنحه عروضًا ماليّة جيدة، وهدد كثيرًا بمنع بث البطولة في دول أوروبا الغربية، حيث تبلغ نسبة مشاهدة كأس العالم للسيدات 50-60% من نسبة مشاهدة كأس العالم للرجال وفق إنفانتينو، "ومع ذلك فإن عروض مقدمي خدمات البث في الدول الأوروبية الخمسة الكبار لكأس العالم للسيدات هي أقل ب 20 إلى 100 مرة من عروضهم المقدمة لكأس العالم للرجال.
ففي الوقت الذي يقدم فيه مقدمو خدمات البث 100-200 مليون دولار أمريكي للحصول على حقوق بث كأس العالم للرجال، فإنهم يعرضون فقط 1-10 مليون دولار أمريكي لكأس العالم للنساء، يضيف إنفانتينو:"إن هذه بمثابة صفعة في وجه كل لاعبات كأس العالم للسيدات، بل إنها صفعة في وجه جميع نساء العالم".
الفيفا طمح لكسب ما يقارب 300 مليون دولار من مجموع واردات حقوق البث في كأس العالم للسيدات، ومن أجل ذلك فصل عملية بيع حقوق كأس العالم للسيدات عن بطولة الرجال، لكنّه فشل في الوصول إلى هدفه، ولم يحقق سوى نصف المبلغ المطلوب، ولذلك أسبابه المنطقية.
فعلى الرغم من إقامة كأس العالم للسيدات بسنة لا تحوي فيها مسابقات كروية كبرى للرجال كبطولة اليورو أو بطولة كأس العالم، ولا تحوي أيضَا مسابقة دورة ألعاب أولمبية، لكنّ النسخة الحالية كان أحد أبرز معضلاتها هو التوقيت، البطولة مقامة في أستراليا ونيوزيلندا، وأبرز الدول التي ستتابع هذه البطولة هي دول أوروبا والأمريكيتين، في الولايات المتحدة مثلًا ستكون المباريات فجرًا، وفي أوروبا ستلعب المباريات صباحًا أو في أوقات العمل.
ورغم كلّ هذه المنغصات، تحقق النسخة الحالية أرقامًا قياسية إيجابية من النواحي كافّة، حيث يطمح الفيفا لزيادة عدد المشاهدين إلى قرابة ملياري مشاهد، بعدد يقارب ضعف النسخة السابقة، كذلك حطمت البطولة رقمًا قياسيًا في بيع التذاكر قبل بدايتها، حيث تم بيع 1.4 مليون تذكرة لحضور المباريات في أستراليا ونيوزيلندا، كلّ ذلك حدث قبل بداية البطولة، علمًا أن الفيفا وضع نصب عينيه تحقيق مبيع 1.5 مليون تذكرة في البطولة بأسرها.
والأهم من كلّ ذلك أن الفيفا بقيادة إنفانتينو وعد بتحقيق المساواة في المكافآت بين بطولتي كأس العالم للرجال وكأس العالم للسيدات في عامي 2026 و2027 تواليًا، وهو أمر سهل على الورق، لكنّ تحقيقه صعب للغاية.
من وجهة نظر مالية بحتة، قد يكون من المنطقي عدم المساواة في الأجور بين الرجال والسيدات بكرة القدم، لأن الأرباح المالية التي يقدّمها لاعب الكرة تفوق بأضعاف ما تفعله اللاعبات، اللاعبون يحظون بشعبية هائلة، وتتسابق الشركات الراعية لكسب ودّهم، والفروقات الشاسعة ليست بما تكسبه اللاعبات وما يكسبه اللاعبون، إنما بالعائدات الهائلة التي يجلبها هذا اللاعب، والشعبية الجارفة التي تجلب للقنوات التلفزية الناقلة الكثير من المعلنين والرعاة.
على هذا الأساس تبدو معضلة المساواة بين الأجور تخص منظومة كاملة، ولا تعبّر عن تخلّف أخلاقي من جهة بعينها، بل على العكس، التطوّر من النواحي المالية والتغطية الإعلامية لبطولات السيدات كان ثوريًا، ومتصاعدًا للغاية، بنسب تفوق التصاعد المالي والإعلامي لكأس العالم للسيدات.