في كتابه "نهاية المثقف الفرنسي" (The End of the French Intellectual) يحاول المؤرخ المعروف شلومو ساند التأريخ للمكانة الاجتماعية المرموقة والاستثنائية التي يحظى بها المثقف الفرانكفوني. وعلى هذا الطريق، يحاول فهم الفظائع الأخلاقية التي ارتبطت بالمثقفين الفرنسيين منذ الفترة الذهبية في بداية ومنتصف القرن الماضي وصولًا إلى الألفية الثالثة. هذه السقطات الأخلاقية التي شملت العنصرية والتحرش ومعاداة السامية ومؤخرًا الإسلاموفوبيا، لا يمكن فهمها كما يقترح ساند، بمعزل عن فهم المكانة الاجتماعية والرمزية التي تم بناؤها وتخيلها حول المثقف الفرنسي وحول فرنسا نفسها. مكانة تحولت في فرنسا ما بعد ثورة الطلاب إلى صك غفران مسبق، ومحاولة لإعادة إنتاج صورة جديدة للأمة.
في اللحظة التي ارتدى فيها لاعب الأرجنتين الأبرز ليونيل ميسي البشت العربي، تعرت المقولات الفوقية والعنصرية من طبقات الصواب السياسي الكثيفة التي كانت تغطيها
وعلى هذا النحو فهو يرى أنه لا بد من فهم السياق السوسيو-تاريخي الذي ربط مثقفين فرانكفونيين بارزين بأبشع أشكال الجرائم والتمييز. إن صورة المثقف ومكانته، جزء من الطريقة التي تحاول فيها فرنسا تخيل نفسها، كما يقترح المؤرخ المعروف، عبر تخيل دور معين لمثقفيها. إنها صورة متخيلة عن فرنسا علمانية نقدية وحرة. أما المفارقة، فأن الثقافة الباريسية المرموقة في خضم انشغالها بإنتاج صورة علمانية عن نفسها، منحت المثقف دور الكاهن، "كوسيط بين المؤمن والحقيقة".
لاحقًا، ستنتج المكانة نفسها باسم الحرية والنقد أشكالًا قبيحة من رهاب الإسلام، كما حدث في حوادث مثل شارلي إيبدو. لكن هذا ليس جديدًا كما يقول ساند، فنفس هذه المكانة التي تخيلها المثقفون الباريسيون عن نفسهم، دفعتهم إلى التخلي عن أبسط أدوارهم في مواجهة اللاسامية المتصاعدة في منتصف القرن الماضي. وبين معاداة السامية ومعاداة الإسلام، ولد هذا التبجيل اللاهوتي-العلماني للمثقف وللنقد.
بعيدًا عن فرنسا وعن المثقف الباريسي، تبدو مساهمة ساند مهمة من أجل فهم ما يحدث هذه الأيام، وتحديدًا تعليقات الإعلام الأوروبي حول كأس العالم، التي انجرت إلى مستوى متطرف من العنصرية والاستشراق والإسلاموفوبيا. هذا الإعلام الذي يحظى بكثير من التبجيل، باعتباره نموذجًا مهنيًا ونقديًا، بدا منغمسًا بشكل مكشوف في حملات أيدولوجية فجة. غابت سردية الحياد فجأة، وأصبحت التقارير والتحليلات والافتتاحيات في معظم وسائل الإعلام هذه وكأنها مقالات رأي؛ رأي واحد نعرفه جيدًا. وفي اللحظة التي ارتدى فيها لاعب الأرجنتين الأبرز ليونيل ميسي البشت العربي، تعرت المقولات الفوقية والعنصرية من طبقات الصواب السياسي الكثيفة التي كانت تغطيها، لتكشف عن عمق الخيالات الاستعمارية والاستشراقية.
لا تبدو هذه الصورة بعيدة كثيرًا عما وصفه ساند. كما يقترح كثير من الباحثين، فإن المساعي الأوروبية من أجل تخيل المركز الغربي كفضاء علماني للحريات وللنقد، غالبًا ما أنجز من خلال نوع آخر من الخيال السياسي؛ إنتاج صورة نقيضة لغير الأوروبي كمتخلف، أسطوري، مستبد، غير مؤمن بالحريات، ومعاد للنقد. ولم يعد من المفارقات أن نلاحظ أنه باسم النقد وحرية التعبير، كان هناك رأي واحد يتم فرضه، رأي يتمركز حول ذات أوروبية متخيلة. وهكذا تلعب وسائل الإعلام الغربي الرئيسية اليوم الدور الذي لعبته صالونات الثقافة الباريسية؛ تحاول تخيل أوروبا غير موجودة.
عندما كان مثقفو الوجودية الفرنسيون ذو المكانة الرفيعة، منخرطين بنقاش جوهر الإنسان، كان هناك فقط على بعد ساعة ونصف بالقطار، في بروكسل، في مدينة فرانكوفونية أخرى، حديقة حيوانات بشرية. هناك جُلب آلاف الأفارقة ليتم عرضهم في أقفاص كبيرة أمام العائلات البيضاء، التي ترسل أطفالها في نزه. ستصبح المقاهي والصالونات التي احتضنت النقاشات الفلسفية عن الوجودية هي الصورة المهيمنة لما يتم تسميته بالثقافة الفرانكفونية، أما المشهد الآخر فسيحذف من الصورة.
الثقافة الباريسية المرموقة في خضم انشغالها بإنتاج صورة علمانية عن نفسها، منحت المثقف دور الكاهن، "كوسيط بين المؤمن والحقيقة"
هذا الشهر، وفي مشهدين يكرران المفارقة نفسها ربما، وبينما كان الإعلام البريطاني والفرنسي منغمسًا بالهجوم على كأس العالم في قطر تحت راية حقوق الإنسان والنقد وحقوق المهاجرين، تركت السلطات البريطانية والفرنسية 29 مهاجرًا أفريقيًا يموتون ببطء في قناة المانش، لأن السلطات في الدولتين اعتبرت أن مهمة إنقاذ هذه الأرواح ليس من ضمن مسؤولياتها، رغم نداءات الاستغاثة التي وصلت إلى كل من خفر السواحل البريطاني والفرنسي لمدة ساعات. أحد المشهدين سيبقى، أما الآخر فسيمحى من الذاكرة الانتقائية ومن صفحات الصحف الأولى، لأن هناك أجسادًا لا بد دائمًا من دفنها لإنتاج صورة متخيلة لأوروبا الحياة، النقد، والحضارة.