يتشكّل لبنان من تنوع إثني ومذهبي لم يدخل بعد في إطار سياسي ليشكل هيئة مجتمعية واحدة تحكمها القيم والتمثلات والرؤى المشتركة للحياة. هكذا، ومع مرور الوقت، تنوعه هذا في إطار تكوينات الجماعات التقليدية المغلقة، لم يتحول إلى مجتمع في إطار دولة حقيقية.
هذا الواقع انعكس سلبًا على الكثير من الأمور، منها الفشل إلى حد اليوم في كتابة تاريخ لبنان. ورغم الدعوات الحثيثة التي انبثقت في وثيقة الطائف لوضع كتاب تاريخ مدرسي موحد، باءت جميع المحاولات بالفشل. وزارة التربية في إطار تجديد المناهج الدراسية، قامت بمحاولات متكررة. شكلت لجان عديدة دعت إليها مؤرخين وأكاديميين، ولكن إلى جانبهم، دائمًا، كان يحضر ممثلو الطوائف والأحزاب اللبنانية.
إذًا، الرأي العلمي لا يحسم الموقف، ما يؤدي إلى هذ الفشل، فضلًا عن أن وزارة التربية نفسها كما هو حال عموم مؤسسات الدولة اللبنانية، تستحكم فيها التركيبة الطائفية، ما يجعلها غير محصنة أمام سيل التدخلات السياسية والطائفية.
نزعت كل طائفة إلى كتابة تاريخ لبنان وصوغه وفق مقاساتها
أسهب مختصون ومهتمون في الحديث عن سبب الفشل في توحيد كتاب التاريخ اللبناني في المدارس، وما يكتنف هذه القضية من طروحات وعوائق. لكن إلى أين يرمي جذر رؤية اللبنانيين لتاريخهم انطلاقًا من المرحلة التأسيسية للكيان اللبناني 1908- 1920، كمحطة أولى لمعرفة إشكاليات صياغة التاريخ الحديث، التي ما هي في الواقع إلا امتداد لتلك المرحلة، وذلك بالاستناد إلى دراسة قام بها المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني بعنوان "إشكالية الدولة والطائفة والمنهج في كتابات تاريخية لبنانية". فلقد عبرت اتجاهات الكتابة التاريخية اللبنانية آنذاك، كما يبيّن كوثراني، عن نزعات قومية متباينة، حيث نزعت كل طائفة إلى كتابة تاريخ لبنان وصوغه وفق أيديولوجيا سياسية، بحثت من خلالها عن موقع ومكاسب في"الدولة المحدثة"مستندة إلى قاعدة الأحقية والأسبقية التاريخية في تأسيس لبنان المستقل عن السيطرة العثمانية. انعكس ذلك بأبهى تجلياته في همّ البحث عن شخصية محلية في التاريخ العثماني تحمل صورة الرمز الوطني المناهض للعثمانيين وبناء أسطورته، فكان تاريخ فخر الدين المعني، الذي أبرزته كل طائفة كبطل للاستقلال، لتبرير تصوّرها للدولة القومية. جرى استحضار تاريخ فخر الدين من زوايا متعددة مذهبية "لا ديني، درزي، سني"، وأيضاً من زوايا قومية مختلفة "لبنانية، سورية، عربية".
لا بد من الإشارة إلى أن المؤرخ الشيعي آنذاك لم يدخل في هذا السباق، وذلك يعود لسبب رئيسي هو التهميش الذي عاناه الشيعة خلال فترة بناء الدولة في مرحلة الانتداب والاستقلال. هذا السياق الذي سيتغير بدءًا من السبعينيات و"سيبحث عن "بطل" شيعي لبناني من مرحلة العشرينيات ليجري التأسيس التاريخي للانخراط في المشروع السياسي، مشروع الدولة".
يكشف كوثراني في دراسته عن أولوية تفكير واحدة لدى الطوائف، فلا تغيرات إلا وفق المشروع السياسي. فالأساس هو في سيطرة الأيديولوجيا السياسية على البحث التاريخي، وبالتالي طمس المعطيات العلمية والموضوعية، فالمؤرخ أيديولوجي يحمل مشروعاً سياسياً راهنًا، ويحاول أن يبرره ويدعمه من خلال الماضي المحكي بلغة الحاضر. وكمثال على ذلك، تمت استعارة اللغة القومية عند الحديث "الخصوصية القومية" لبنانية أو عربية ليغدو الصراع مع العثمانيين قوميًا، حتى في القرن السابع عشر، أي قبل تبلور أفكار القومية وظهورها في أوروبا نفسها! ما يجعل هذا الطرح غير تاريخي إطلاقًا، وينعكس على المناهج اللبنانية بوضوحٍ تام.
وبعيدًا عن منطق التجاذب الطائفي والتصوّرات الأيديولوجية للمؤرخين اللبنانيين، يستحضر كوثراني رؤية المؤرخ كمال الصليبي، مقدمًا مراجعة نقدية لها، بعنوان "كمال الصليبي في تأريخه لبنان الحديث وصورة الأمير المعني". طبعًا ينفي الصليبي أن تكون الإمارة اللبنانية وبطلها المؤسّس فخر الدين المعني هي النواة التاريخية للدولة اللبنانية الحديثة، فلا خصوصية مميزة للبنان العثماني عن بقية المناطق العربية، ويدحض التصوّرات الأسطورية والأيديولوجية للمؤرخين الموارنة التي تقول بالأصولية الفينيقية للبنان، ونظرية الجبل، الملجأ للأب لامنس، كما للتاريخ الدرزي والسني.
يلخص كوثراني رؤية الصليبي في كيفية تصوّر الماضي في حاضر لبنان بالارتكاز إلى كتابه "بيت بمنازل كثيرة"، وتحديداً الفصلين الأخيرين منه، الحرب على تاريخ لبنان، والبيت والمنازل الكثيرة. وخلاصتها تتمثل بعدم إمكانية أن تفرض طائفة نظرتها إلى تاريخ لبنان على الطوائف الأخرى، وضرورة قيام ما يسميه حملة تنظيف عامة في "بيوت العناكب" المنسوجة داخل البنى الطائفية والمذهبية من أجل التوصل إلى معرفة علمية للتاريخ تطيح بالأحكام المسبقة المتعلقة بماضي لبنان والعرب، أي بمعنى آخر نقد المرويات التاريخية الطائفية المؤدلجة.
لا يمكن بناء وطن دولة على تاريخ سياسي مختلف عليه
برأي الصليبي، لا يمكن بناء وطن دولة على تاريخ سياسي مختلف عليه "فلا بد من الاقرار والاعتراف بهذا الاختلاف على قاعدة البحث التاريخي الموصل إلى حقائق تاريخية، وإن كانت هذه الحقائق لا تحمل معاني الوحدة الوطنية وهي لا تحملها أصلاً". وعند هذه النقطة يطرح كوثراني سؤالًا يعده مغفولًا عنه لدى الصليبي "ما هي شروط الحاضر التي تمكّن من تصحيح الأحكام المسبقة للوصول إلى المعرفة الدقيقة؟" وهنا يستعرض كوثراني طرحًا مغايرًا لطرح الصليبي الذي يقوم على افتراض أن التوافق التاريخي هو شرط للتوافق السياسي، معتبرًا أن سياسات الحاضر هي الفاعل الأول في هذا الشأن وإلا فمطالبة الطوائف بتنظيف تواريخها ما هو إلا دوران في حلقة مفرغة، فكي يستقيم أمر الدولة /الوطن، لا بد من تنظيف السياسات بالبرامج والخطط لبناء دولة وطن، وتنشئة مواطن منفتح على كل المعارف وعلى كل الثقافات ومتفهم خصوصيات الطوائف الدينية وذاكرتها التاريخية.
لم يتم التسالم على هوية لبنان حتى الآن. بقيت كل طائفة تفسّر التاريخ وتقرأه على طريقتها الخاصة التي تخدمها سياسيًّا. وبمعنى أدق فإن إشكالية التاريخ وكتابته هي جزء من إشكالية غياب الدولة أو لنقل هشاشة بنيتها وضعفها.
إن التفكر في كتاب تاريخ موحد يجب أن لا يغفل ضرورة قيام دولة قادرة، وهنا التوحيد لا يأتي بالمعنى الحرفي أو من خلال تقديم رؤية آحادية للتاريخ، لأنه ليس من سردية واحدة في نهاية الأمر، إنما القصد هو تقديم محاولة لتفسير الماضي وإمكانية تبريرها بالاستناد إلى العلم. وإلى حين قيام الدولة كمضمون وليس كشكل وحسب، يمكن لوزارة التربية بحدود إمكانياتها أن تقوم بإعداد مقرر دراسي يعلم المنهج التاريخي العلمي وطرائقه بعيدًا عن موجبات الحفظ والتلقين، وينمي الرؤية النقدية والتحليلية للتاريخ لدى الطلاب، ولا سيما عند مقاربة المادة الخلافية، وذلك كحل مؤقت حتى لا تضيع حصة التاريخ أو يجري تعويضها بحصص التربية المدنية كما جرى في غير مرة، فلربما كانت هذه خطوة نحو إعداد أجيال لا تخضع لتصوّرات أيديولوجية سواء كانت طائفية أوغير طائفية تستحضر الماضي في الحاضر وتوظّفه في الصراعات السياسية، ما يقطع الطريق على مشروع الدولة ويعرقل قيامها الحقيقي.