صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الحركات الاحتجاجية في تونس والجزائر والمغرب (2011–2017) شارك فيه مجموعة من المؤلفين، وهو من تحرير مهدي مبروك. ويشتمل هذا الكتاب على 376 صفحة، ويضمّ إرجاعات ببليوغرافية وفهرسًا عامًّا.
يتناول هذا المؤلَّف نماذج من الحركات الاحتجاجية التي شهدتها تونس والجزائر والمغرب، خلال الموجة الأولى من الانتفاضات العربية (2011-2017)، ويبيّن كيف أن هذه الحركات تُعَدّ مؤشرًا مهمًّا دالًّا على تحرّر الفضاء العام، ودينامية مجموعات العمل الجماعي وقدرتها على ابتكار أشكال مختلفة للتعبير الاحتجاجي، وتعبئة الموارد والتنظّم الذاتي، فضلًا عن دلالتها على نمو حركية المجتمع وإعادة إنتاج فاعليه ونخبه وصياغة مهماته وأدواره على نحو مغاير. ويضمّ هذا الكتاب الجماعي عشرة فصول تستند إلى مقاربات نظرية متنوعة تتوسل بمنهجيات بحثية مختلفة. وهذه الفصول موزعة جغرافيًّا على ثلاثة بلدان مغاربية شهدت حركات احتجاجية لها خصوصياتها مع بعض القواسم المشتركة، وهذا مجرّد تصنيف جغرافي، يؤكد خصوصيات الظواهر الاحتجاجية، من دون أن ينفي وجود حالات تشابه مع تقاطعات عدة؛ منها أنماط التعبئة، وأساليب الاحتجاج ومآلاته.
يتناول كتاب "الحركات الاحتجاجية في تونس والجزائر والمغرب" نماذج من الحركات الاحتجاجية التي شهدتها تونس والجزائر والمغرب، خلال الموجة الأولى من الانتفاضات العربية (2011-2017)
الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في المغرب
افتُتح المؤلَّف بفصل أوّل عنوانه "الحركات الاجتماعية والاحتجاج في سياقات انتقالية" للباحث عبد الرحمان رشيق، وهو فصل بمنزلة مدخل نظري عميق قدّم الباحث من خلاله بعض المقاربات النظرية السوسيولوجية بشأن تحليل الاحتجاج الاجتماعي الذي يعبّر عن السلوك الجماعي ويترجم التغيرات الاجتماعية. ويرى الباحث أن مصطلح الاحتجاج هو مصطلح "فضفاض"، تتأرجح معانيه بين الفتنة والانتفاضة والشغب والفوضى والقلاقل والعصيان، وحتى الثورة أيضًا. وقد صنّف الباحث السلوك الاحتجاجي إلى ثلاثة أنواع، هي: الانتفاضة، والحركة الاجتماعية، والحركات الاجتماعية الجديدة.
أما في الفصل الثاني، "جدل الهوية والذاكرة والمجال"، فقد توقّف محمد أحمد بنيس عند أحد أبرز الظواهر الاحتجاجية خلال السنوات الأخيرة لانتفاضة الريف المغربي؛ إذ بيَّن أن حراك الريف مثّل تحولًا نوعيًّا في سيرورة السلوك الاحتجاجي وإضافة نوعية للجيل الجديد من الاحتجاجات المغربية، ومنعطفًا مهمًّا في انتقال الاحتجاجات في المغرب من طور الانتفاضة إلى طور الحركة الاجتماعية. ومن بين ما كشفه الحراك فقرُ العرض السياسي الذي قدّمته السلطة وإخفاقها في بلورة مشروع تنموي متكامل يقلّص الفوارق المجالية بين مختلف الجهات والمناطق، وعجزها عن التفاعل مع مطالب الحراك، وتردّدها في إيجاد حل مناسب يستوعب الجوانب التاريخية والتنموية للاحتجاجات التي أطلق شرارتها مصرع محسن فكري. وأبرز الباحث انهيار مؤسسات الوساطة التقليدية (الأحزاب، والنقابات، والنخب المحلية ... إلخ)، وتهافت الأحزاب تحت غطاء التعددية الشكلية، وعجز النخب التي ما عادت قادرة على القيام بأدوارها في التأطير والوساطة، نتيجة احتكار السلطة الحقل السياسي وإخفاقها في إحداث دينامية فاعلة في قنوات التواصل بين الدولة والمجتمع، كفيلة بحل إشكالات المشاركة والديمقراطية والتنمية.
في الموضوع ذاته، كان رشيد جرموني في الفصل الثالث، "حراك الريف في المغرب: من حركة احتجاجية إلى حركة اجتماعية: نحو مقاربة نقدية جديدة لقراءة الحراك"، حريصًا على الإجابة عن سؤالين محورين، هما: كيف استطاعت الحركة الاجتماعية في الريف أن تصمد أكثر من عام؟ وما العوامل الأساسية التي جعلت هذا الحراك يشكّل تحولًا نوعيًّا في مسار الحركات الاحتجاجية بالمغرب؟ فاعتمد على اختبار مفهومين جديدين من سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية؛ هما "اللاحركات الاجتماعية" لآصف بيات (2014)، و"الفعل الجمعي والفاعلين غير الجمعيين" لألبيرتو ميلوتشي (1983). ولئن أكّد الباحث المسألة الثقافية في احتجاجات الريف، فإن أحمد إدعلي سعى في الفصل الرابع، "الدينامية الاحتجاجية في الريف المغربي: بحث في بواعث الاحتجاج واستراتيجيات التعبئة"، إلى فهم الدينامية الاحتجاجية في منطقة الريف، عبر دراسة بواعث الاحتجاج، واستراتيجيات التعبئة وصيغ التأطير والموارد التي جرى استثمارها، وكيفية بناء المعاني المستثيرة للنضال والمُحرّضة على "تأويج الطاقة التعبوية"، خصوصًا أن الفعل الاحتجاجي في المغرب ظلّ في حالة كمون طوال تسعينيات القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين إلى حين انبعاث حركة 20 فبراير، وبعدها بخمسة أعوامٍ تقريبًا انطلقت أحداث الريف بعد مقتل السمّاك محسن فكري في الحسيمة سَحقًا بشاحنة نفايات.
ساهمت احتجاجات الشمال المغربي، وكذلك حركة 20 فبراير، في قلب المعادلة، نسبيًّا، بين المنظومة المخزنية والمجتمع، وفي رفع سقف المطالب. وهذا المنحى الإشكالي يبرزه مولود أمغار في الفصل الخامس، "خطاب المقاومة واستراتيجيات إخضاع التابوات السياسية للنقاشات العمومية في المغرب (2011-2014)"، وقد عرض فيه طبيعة العلاقة الجديدة التي ينسجها المجتمع المغربي مع السلطة السياسية خلال الفترة المنصوص عليها، ولا سيما أن الحراك الاجتماعي والسياسي، الذي قادته حركة 20 فبراير بالمغرب تحت شعار "إسقاط الفساد والاستبداد"، شكّل فرصة مواتية للكشف عن طاقات الفعل الجماعي الكامنة لدى الشباب المغربي. وقد اشتغل الباحث بالتغيرات الطارئة على بنية الخطاب النضالي في الفضاء العمومي، من خلال تحليل القضايا التي استأثرت باهتمام الرأي العام، وتحديد طبيعة الخطابات الاحتجاجية التي أنتجتها حركة 20 فبراير بشأن السلطة السياسية، والموضوعات الكبرى التي كانت محط احتجاج ونقاش.
الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في تونس
يطرح الباحث كاظم دبيش في الفصل السادس، "لجان حماية الثورة في تونس: النشأة والمسار"، الأسئلة التالية: كيف نشأت لجان حماية الثورة وانتشرت؟ وما الأدوار التي مارستها؟ وما صيغ تفاعلها مع مكونات المشهد السياسي والمشهد الاجتماعي؟ وما المسارات التي اتبعتها؟ وما طرائق اشتغالها؟ ذلك أنّ تكوُّن هذه اللجان يُعدّ من المسائل التي أثارت جدلًا حادًّا خلال المسار الانتقالي. وللإجابة عن الأسئلة المطروحة، عمد الباحث إلى معالجة الوقائع الموثقة، مستقرِئًا ومُحلِّلًا مجمل الوثائق والبيانات الصادرة عن لجان حماية الثورة، وشهادات بعض المؤسسين الأوائل والناشطين في صلبها، موظَّفًا في ذلك نظرية هيكل الفرص السياسية، لربطها بين الحركة الاجتماعية ومحيطها السياسي.
إن تقنين الأحزاب والجمعيات، وبروز نخب سياسية جديدة خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، لم يحجبَا في المقابل وجود فئات تشعر بالضيم والغبن، وإن مرحلة ما بعد الاستبداد لم تغير من وضعيتها البائسة؛ لذا، جرى اعتماد شكل مبتكر من الاحتجاجات الرمزية، شأن "اعتصام الصمود" الذي تناولته الباحثة رحمة بن سليمان في الفصل السابع، "استراتيجيات تعبئة الموارد والتفاوض مع الفاعل السياسي في ’اعتصام الصمود‘ من أجل تفعيل مرسوم العفو العام". وقد سعت الباحثة لفهم ظروف نشأة هذا الاعتصام ومعرفة الميكانيزمات التي وظّفها في التعبير عن مطالبه، والبحث في تفكيك مختلف الأشكال الاحتجاجية المعتمدة من المحتجّين في الضغط، والوسائل الموظّفة للتعبير عن رفضهم استمرار تهميشهم وحرمانهم من جانب الحكومات المتعاقبة وعمليّات التعبئة المعتمدة.
ساهمت احتجاجات الشمال المغربي، وكذلك حركة 20 فبراير، في قلب المعادلة، نسبيًّا، بين المنظومة المخزنية والمجتمع، وفي رفع سقف المطالب
اشتغلت الباحثة بفرضيتين؛ تطرح أولاهما إمكانية تحوّل السلوك الجماعي القائم على الحرمان النسبي إلى سلوك معقلن في إطار سيرورة التعبئة من أجل تحقيق المطالب، في حين تمثلت ثانيتهما في أنّ التفاوض القائم بين المعتصمين وأطراف من الحكومة أدّى دورًا مهمًّا في إدارة الأزمة، بحسب المعطيات التي استثمرتها الباحثة وتوظيفها تقنية تحليل مضامين أشرطة الفيديو والمقالات الصحافية ومحاضر لقاءات عُقدت بين ممثّلين عن الحكومة والمعتصمين، وملاحظة سلوك المعتصمين من أجل فهمها وتأويلها في سياق احتجاجي.
أما حملة "مانيش مسامح" (لن أسامح) التي نشأت في سياق زمني مختلف عن سابقيها، فقد اتسمت بصراع حادٍّ بشأن قانون المصالحة، وكانت محل اهتمام الباحث جابر القفصي في الفصل الثامن، "هل تمثّل الحركات الاحتجاجية الشبابية منافسًا جدّيًا للحركات العمالية والنسوية التقليدية في الفعل الاجتماعي؟ حملة ’مانيش مسامح‘ مثالًا تطبيقيًا". ففي هذا الفصل، طرح الباحث إشكالية مدى اعتبار هذه الحملة حركة اجتماعية، فضلًا عن أهم الخصائص التي تميزها من الحركات التقليدية النقابية والنسوية، وتجعلها مرشحة لتكون بديلًا منها، وتطرّق الباحث كذلك إلى أفق استمرارها ونجاحها في تحقيق جزء من أهدافها.
الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في الجزائر
مع انغلاق النسق السياسي الجزائري الظاهري مقارنةً ببقية البلدان المغاربية، يكشف التحليل العميق أنّ البلاد شهدت أنماطًا احتجاجية متنوعة ميدانية ورقمية، حفزها الحراك العربي، بغض النظر عن مساراته ومآلاته، إضافةً إلى انتشار المنصات الاجتماعية التي يسّرت نشأة ديناميات احتجاجية مستجدة؛ من حيث المضامين، والأشكال، وتوظيف الشبكات الافتراضية، وهو ما تطرق إليه عيسى مراح في الفصل التاسع، "التنديد والاحتجاج عبر شبكات التواصل الاجتماعي: نحو تجديد أشكال المشاركة السياسية في الجزائر قبل 2019"، متسائلًا عن إمكانية تحول الخطاب الغاضب في الشبكات الاجتماعية إلى مصدر للالتزام السياسي. لقد تصاعدت وضعيات التعبير الاحتجاجي والمشاركة السياسية الرقمية بعد عام 2011، في مقابل انغلاقٍ تامٍّ للمشهد السياسي وتجميدٍ للمعارضة وتحييدٍ للمجتمع المدني. لهذا، عدّ التنديد في شبكات التواصل الاجتماعي الرقمية تعبيرًا عن الفعل الاحتجاجي الافتراضي، شكلًا مستحدثًا من أشكال المشاركة السياسية غير التقليدية والبديلة.
وقد أعادت الرسائل الاجتماعية التفاعلية والاحتجاجية، والاستراتيجيات الخطابية التي اتُّبعت، صوغَ الغضب، وشحذت الوعي بالالتزام الجماعي وتجديد أشكال الفعل السياسي؛ وهذا ما أدى إلى بزوغ بوادر واعدة متعلقة بالوعي بالواقع وبحركية تغيير الوضع القائم، فضلًا عن التمهيد للتعبئة غير المسبوقة التي شهدها حراك 22 فبراير 2019.
ساهم النموذج الاحتجاجي الرقمي في تخصيب الأرضية ونقل الفعل الاحتجاجي والمعارض في الجزائر من الشبكات الاجتماعية إلى الشبكات الميدانية، ومن التنسيق الافتراضي إلى التنسيق الواقعي. وقد ناقش كمال شكلاط في الفصل العاشر، "تعبئة من دون ثورة: لماذا فشل الحراك الجماهيري قبل 2019؟ تحليل نقدي لحالة التنسيقية الوطنية من أجل التغيير والديمقراطية في الجزائر"، مثيرًا إشكالًا جوهريًّا: ما الذي جعل الجزائر في "مأمن" من عاصفة سقوط الأنظمة القوية؟ ولماذا ظلت خارج الديناميات الثورية؟ ولماذا كان لتعبئة التنسيقية انتشارٌ جغرافي محدود؟ وقد تعرّض الباحث لمسار تشكّل التنسيقية منذ 21 كانون الثاني/ يناير 2011، وتركيبتها المكونة من فاعلين مدنيين وسياسيين ونقابيين، وهي تنسيقية قادت تحركات احتجاجية ابتداءً من 12 شباط/ فبراير 2011، ثم إنها حركة اجتماعية متعددة القطاعات، أسّسها ممثلون عن المجتمع المدني وأحزاب سياسية ونقابات وشخصيات مستقلة. ومن معززات ظهورها، بناء تقارب بين المجموعات غير المتجانسة التي كان يفصلها كل شيء؛ فوجود الأحزاب السياسية في التنسيقية، وإن كانت أحزابًا هامشية، لم يكن يمثّل التحالف المبتكر الوحيد. وبيّن الباحث أن تركيبة الفاعلين في المظاهر الاحتجاجية كانت غير متجانسة، وأنها تكشف عن تركيبات أخرى غير مسبوقة أيضًا، وأنّ الهدف الأساسي من التنسيقية كان جمع القوى السياسية والاجتماعية للنضال الجماعي؛ من أجل التغيير الديمقراطي، والإفراج عن المعتقلين، ورفع حالة الطوارئ، وفرض المشاركة السياسية.