صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب ناصر بن سيف السعدي العلماء والسلطة في عُمان: 1749-1913. يقع الكتاب في 335 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
يُبيّن الكتاب أن هناك نزعة سياسية ترسّخت تاريخيًّا لدى العلماء والفقهاء في عُمان، وهي أن أمر الحكم والسلطة هو أساسًا عند العلماء، ولا يخرج عن دائرتهم، إلا إذا أعطوا مشترك أدائهم لواحد منهم، يختارونه قويًّا عدلًا، وكانوا يقولون: "صار أمر عمان في أيدي علمائها منذ قديم الزمان". ووفقًا لهذه النزعة السياسية التي تسعى إلى ترسيخ مبدأ الحق السياسي، ظلوا يدافعون عن هذا الحق. يحاول الكتاب فهم عوامل تلك النزعة، والأساس النظري الذي تستند إليه، وفهم مسار العلاقة السياسية بين العلماء والسلطة في التاريخ العماني منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى مطلع العقد الثاني من القرن العشرين.
يُبيّن الكتاب أن هناك نزعة سياسية ترسّخت تاريخيًّا لدى العلماء والفقهاء في عُمان، وهي أن أمر الحكم والسلطة هو أساسًا عند العلماء، ولا يخرج عن دائرتهم، إلا إذا أعطوا مشترك أدائهم لواحد منهم
العلماء والسلطة في النظرية السياسية الإباضية
تستند الممارسة السياسية في عُمان منذ أول إمامة إباضية عام 132ه/ 749م، إلى قواعد الفكر السياسي للمذهب الإباضي وإلى أسس هذا المذهب. بناء عليه، وُضِعت الأطر التي تحكم العلاقة بين العلماء والسلطة السياسية، وهي أطر مستمدة من مبادئ الإسلام، وآثار السابقين من الأئمة والعلماء. ولا يمكن فهم تاريخ العلاقة ومسارها التاريخي إلا بالعودة إلى مبادئ المذهب الإباضي، وقواعد السلطة السياسية وأسس شرعيتها، والغاية من ذلك فهم طبيعة العلاقة بين التنظير والواقع التاريخي.
من أهم الإشكاليات السياسية التي واجهت عُمان عبر فترات زمنية متعاقبة، إشكالية طُرق تداول الحكم وانتقاله من حاكم إلى آخر. ومع قيام دولة اليعاربة عام 1034ه/ 1624م، ساد نوع من التوافق النسبي بشأن طريقة انتقال الحكم، واستمر حتى وفاة الإمام سلطان بن سيف اليعربي عام 1131ه/ 1719م، لتدخل عُمان بعد هذا التاريخ في نزاعات سياسية بشأن من يخلفه في الحكم، استمرت حتى مبايعة الإمام أحمد بن سعيد بالإمامة عام 1162ه/ 1749م؛ إذ عقد للأخير جملة من العلماء والفقهاء وبايعوه إمامًا. إلا أن طرق تداول الحكم بعد وفاته واجهت إشكالًا، وتراجَع دور العلماء، ولم يُعتمَد الاختيار والبيعة والعقد أساسًا للوصول للحكم؛ ما أدى إلى تفجر النزاعات، وظهور الادعاءات من هذا الطرف أو ذاك، بأحقيته في الحكم .
صاحبت الإشكالَ الذي شمل مسألة طرق تداول الحكم في عُمان مواقفُ بريطانية؛ إذ عمدت تلك المواقف إلى دراسة تاريخ تلك الطرق، وظهرت إبّان النزاعات السياسية تقارير عدة تهدف إلى البحث في جذور انتقال الحكم عبر تاريخ عُمان، كما أنها رصدت بعض أفكار أطراف النزاع السياسي ورؤاهم. ومن أهم تلك التقارير تقريران ظهرا في فترات زمنية متباعدة؛ الأول تقرير لجنة السير وليام ككولان، وهي اللجنة التي شُكِّلت لوضع حد للنزاع بين السيد ثويني وأخيه ماجد في ما يتعلق بالحكم، عقب وفاة والدهما عام 1273ه/ 1856م. ولكي تتعرف اللجنة إلى أسس انتقال الحكم وتقاليده في عُمان، تتبعت تاريخ عُمان السياسي ودراسته، فتركت تقارير ونصوصًا تحمل وجهات نظر أطراف الصراع حينها، وادعاء كلٍّ من السيدين ماجد وثويني. ومن أهم التقارير التي خلّفتها اللجنة المذكورة تقرير رغبي Rugby في عام 1275ه/ 1859م، بعنوان "عادة شيوخ العرب بخصوص الخلافة". واستمرت بريطانيا في دراسة التاريخ السياسي وتقاليد تداول الحكم، عند الحاجة إلى ذلك؛ فبعد أكثر من نصف قرن، ظهر تقرير آخر أعدَّه الوكيل السياسي مورفي Murphyبشأن تقاليد انتقال الحكم في عُمان، منذ عام 1162ه/ 1749م، وكان ذلك بالتزامن مع قيام الشيخ نور الدين السالمي بتنصيب سالم بن راشد الخروصي إمامًا في عام 1331ه/ 1913م.
هذه التقارير تعكس، من جهة، الإشكال السياسي الذي يصاحب تداول الحكم وانتقاله، وتدل، من جهة أخرى، على وجود رؤية سياسية يمثلها العلماء والفقهاء، وهي نظام الإمامة، التي يرونها الطريقة المثلى لتحقيق الاستقرار والإجماع السياسي.
رؤى العلماء وأفكارهم السياسية
يتطلب فهم آراء العلماء السياسية مناقشة الأكثر انشغالًا منهم بالسياسة، وذلك بناء على الاعتبارين الآتيين؛ أولًا: حجم التأثير والمكانة العلمية والسياسية، ثانيًا: الدور السياسي، وخصوصًا دور الذين كانت لهم مواقف سياسية بارزة تجاه الأوضاع السياسية بشكل عام. وهم أربعة علماء: الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، والشيخ صالح بن علي الحارثي، والشيخ عبد الله بن حميد السالمي، المعروف بنور الدين السالمي.
تستند الممارسة السياسية في عُمان منذ أول إمامة إباضية عام 132ه/ 749م، إلى قواعد الفكر السياسي للمذهب الإباضي وإلى أسس هذا المذهب
على الرغم من التحوّل الذي حدث بعد وفاة الإمام أحمد بن سعيد عام1198 ه/ 1783م، في ما يتعلق بطرق تداول الحكم، وتراجع الدور السياسي للعلماء والفقهاء في العقد والبيعة للحاكم، فإن مكانة العلماء الاجتماعية والسياسية لم تتأثر، بل ظلوا مؤثرين في صوغ شكل الحوادث السياسية بطريقة أو بأخرى. وكان من البديهي إدراك ما كان للعلماء من تأثير، ومكانة السلاطين والسادة الذين حكموا عُمان؛ لذلك سعى السلاطين بوسائل شتى إلى كسب ود العلماء، واتخذت محاولات التقارب أوجهًا ومسارات وغايات عدة.
ولا يوجد مظهر واحد للعلاقة التي سادت بين العلماء والسلاطين، ولم تكن العلاقة راسخة في الحالات كلها، إنما قد يسود الوئام أحيانًا، ويتحول إلى صدام أحيانًا أخرى. ومن أسباب هذا التأرجح في العلاقة، سبب يعود إلى المبدأ الفقهي المترسّخ في فكر المذهب الإباضي، والذي ينظر دائمًا إلى علاقة الفقيه والعالم بالسلطان نظرة الشك والريبة، وهذا من الآثار الفقهية التي حضرت كثيرًا في نصوص العلماء والفقهاء الذين عاشوا خلال الفترة الممتدة من أواخر القرن الثامن عشر حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ إذ يحذّر الشيخ سعيد بن أحمد الكندي من التقرّب إلى السلطان، بقوله: "من ازداد من السلطان قربًا ازداد من الله بُعدًا"، وليس الكندي وحده من حذَّر من ذلك، بل ورد كثير من النصوص لعلماء عاشوا في الفترة ذاتها؛ أمثال الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، وابنه ناصر، وسعيد بن خلفان الخليلي، والشيخ نور الدين السالمي، وغيرهم من العلماء.