يقيم الكاتب والمفكر اللبناني فواز طرابلسي في كتابه "دم الأخوين: العنف في الحروب الأهلية" (رياض الريس للكتب والنشر، 2017)، روابط بين الحرب الأهلية اللبنانية، والحروب الأهلية عمومًا، من جهة، ومجموعة من العادات والطقوس الدينية والأعراف القبلية المختلفة من جهةٍ أخرى. ويقدّم، عبر الوصل فيما بينها، قراءة جديدة في أعراف تلك الحرب، وما ترتب عليها من عنفٍ، وخطفٍ، ونهبٍ، وعمليات ثأر فردية وجماعية متبادلة.
تحول طقس "البربارة" بعد وصوله إلى بيروت مع المهاجرين الذين جاؤوها من الريف، إلى مناسبة يذكّر فيها فقراؤها مترفيها بوجودهم
"البربارة" بين العنف والنهب وإعادة توزيع الثروات
يلقي طرابلسي الضوء، في البداية، على العلاقة التي جمعت بين الحرب الأهلية اللبنانية و"عيد البربارة". فالأخير، وهو طقس مسيحي ريفي له دلالة اجتماعية مباشرة ترتبط بالعمل، على اعتبار أن القديسة بربارة، صاحبة العيد، هي شفيعة العمال والحرفيين وجميع من يمارس أعمالًا شاقة وخطرة؛ يحمل في متنه شكلًا من أشكال العنف الذي اكتسبه في المدينة، بيروت، التي وصل إليها مع المهاجرين الذين جاؤوها من الريف.
اقرأ/ي أيضًا: "إن كان بدك تعشق".. ثقافة الأطراف على طاولة فواز طرابلسي
استحدث الوافدون إلى بيروت من الريف، ومعهم بعض أبناء المدينة، صيغة جديدة من طقس البربارة، لا تلتقي مع الأصل إلا في الشكل فقط. فبينما اقتصرت طقوسها في الريف على طواف الفقراء على بيوت الموسرين، في ما يشبه حفلة تسولٍ جماعية الغاية منها طلب المال والإحسان دون حياء، تحولت البربارة في بيروت إلى مناسبةٍ يذكّر فيها فقراؤها مترفيها بوجودهم، عبر الطواف في أحيائهم لا من أجل المال، بل من أجل غاياتٍ أخرى مختلفة، يتقدمها إعلان الهوية، وتكريس حضورها، والقول بأن المدينة هي مدينتهم أيضًا، دون أن يخلو الأمر من ممارسة العنف، بصرف النظر عن أشكاله ودرجاته.
هكذا، تتحول "البربارة" إلى نوعٍ من أنواع الانقلاب في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي الطبيعي للأشياء، ذلك أنها تحتوي على معظم عناصر الاحتفال الكرنفالي، بما هو طقس غايته الأساس، ووظيفته الأولى، بحسب المؤلف، خلق لحظة زمنية من الهروب والحرية والمساواة.
في الأشهر الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، اكتسى العنف طابع الاحتفال الكبير بعيد البربارة. وفي هذا الاحتفال، انقلب النظام الاجتماعي، وصار العيد أشبه بعملية "إعادة توزيع عمومية للثروات"، حيث انتشرت عمليات النهب التي يرى طرابلسي أنها تحقيق عملي لإعادة التوزيع هذه، التي حدثت بفعل تناوب المقاتلون من جانبي خطوط التماس، على نهب وسط المدينة، حيث يتمركز أغنياؤها. هنا، يقول المؤرخ اللبناني إن الفقراء الذين كانوا قبل الحرب يجتاحون شارع الحمراء، ليلة رأس السنة، ليفرضوا عالمهم، رمزيًا، على الأغنياء؛ اجتاحوا بعدها وسط المدينة، مسلحين، لإقامة ما يسميه "الحفلة العربيدة" من إعادة التوزيع العمومية لمحتويات المرفأ وأسواق الوسط التجاري.
"البربارة"، بهذا المعنى، هي انقلاب حقيقي في النظام الاجتماعي، ولكنه انقلاب مؤقت وزائل وفق مؤلف "ثورات بلا ثوار". فالنهب، نهب وسط المدينة، افتَتح وظيفة جديدة للعنف هي الارتقاء الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة. ولكنه، بانسحاب الجموع البشرية العادية، إن صح القول، لصالح الميليشيات التي احتكرت النهب، تغيرت وظيفته من إعادة التوزيع العمومية، إلى إغناء القلة، الميليشيات، على حساب الكثرة. مما يجعل من العنف الذي كان، في البداية، وسيلة من وسائل التسوية العامة وإعادة توزيع الثروة، أداة للنهب المافيوي وولادة تمايزات اجتماعية من نمط جديد خلال الحرب.
افتتح نهب وسط مدينة بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية وظيفة جديدة للعنف هي الارتقاء الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة
إهانة الأمهات وهتك الأعراض
تتحول الطوائف في الحروب الأهلية إلى مسوخ حقيقية وفق تعبير فواز طرابلسي. وتستعير، في سياق هذا النوع من الحروب، أعرفها وقيمها والعَصَب، من تكوينات اجتماعية أكثر عضوية، هي الأسرة والعشيرة والقبيلة. على أن تستمد، في المقابل، مادتها التعبوية الإضافية من المرجعيات الدينية والمذهبية. والحديث عن الأسرة، في هذا السياق، غالبًا ما يرتبط بالأم التي تجمعها علاقة معقدة ومتشعبة بالحروب عمومًا، والأهلية منها خصوصًا. فهي، عدا عن أنها أكثر من يختبر الفاجعة في الحرب، قد تكون دافعًا أو سببًا في ممارسة العنف والقتل، لا سيما بالنسبة إلى أبنائها، عند تعرضها للإهانة، بصرف النظر عن شكلها. يقول الكاتب هنا، للدلالة على العلاقة المميزة التي تربط القاتل بالأم، إن: "القتلة خصوصًا، لهم أمهات".
اقرأ/ي أيضًا: فواز طرابلسي.. ما لم تقله خرائط سايكس بيكو
جرى تفسير التعرض للأمهات خلال الحرب الأهلية اللبنانية، من منظور مختلف الأطراف المتصارعة، على أنه محاولة لقتل العائلة، ثم العشيرة، فالقبيلة، وصولًا إلى القضاء على الطائفة التي ينتمين إليها. لذا، يبرر أحد القتلة إقدامه على ممارسة القتل بقوله: "إذ يأخذون منا الأمهات، فإنهم يريدون سلبنا أرضنا ثم يفجرون منا العائلة، وبعد الأمهات يأتي دور الشقيقات ثم دور الأطفال ثم دورنا جميعًا". وفي هذا القول، على ما يرى الكاتب، جميع عناصر الهذيان القبلي.
الحديث عن إهانة الأمهات، يستوجب الحديث عن إصابة العرض بوصفه جزءًا من الحرب النفسية، التي يمارسها الخصوم في الحروب الأهلية ضد بعضهم البعض. في البداية، هناك إصابة العرض بجراحٍ رمزية عبر استهدافه من خلال العنف اللفظي، بهدف ضرب رجولة/ ذكورة الخصم، على اعتبار أن الأخيرة تتجلى أساسًا في الدفاع عن العرض. وفي الحالة اللبنانية، مورست عمليات التجريح الرمزية في مبارزات كلامية عنيفة بين المقاتلين خلال فترات الاستراحة، التي تبادلوا خلالها الإهانات والتشهير بالأعراض، والتعيير بنقصان الرجولة.
هذا في ما يتعلق بإصابة العرض بجراحٍ رمزية. أما بالنسبة إلى إصابته فعليًا بواسطة الاغتصاب، يكتفي المؤرخ اللبناني بطرح تساؤلاتٍ مثل: ما مدى انتشار حالات الاغتصاب خلال الحروب الأهلية اللبنانية؟ هل الحالات النادرة التي نعرفها، وجلُّها مرتكب في حق من يُعد غريبًا، أي غير لبناني وخلال المجازر، هي كل ما ارتُكب في تلك الحرب، أم أننا نعلم بحالات قليلة، ﻷن الاعتراف بالاغتصاب نادرٌ مخافة الفضيحة والعيب؟ وبحسب طرابلسي، لا يسمح مستوى ما هو معروف عن هذا الموضوع بأكثر من طرح هذه التساؤلات.
لم يكن الغريب يُعرّف في الحرب الأهلية بناءً على هويته الطائفية وحدها، بل على انتمائه السياسي الذي يحل إلى آخر عائلي/ عشائري
العائلة/ العشيرة قبل الطائفة
في جميع ما سبق، ثمة استعادة، وإن جزئية، ﻷعراف القبيلة وتقاليدها وقوانينها. ورغم أنها استعادة مشوّهة تمخضت عنها صيغ سياقية جديدة، إلا أنها تشير، بشكلٍ أو بأخر، إلى حرب قبلية أكثر منها طائفية. فالعائلة - الجميِّل، إده، فرنجية، شمعون.. الخ - والحزب - أمل، حزب الله.. وغيرهما - قبل الطائفة. واﻷولويات التي تصدّت اﻷطراف المتقاتلة للدفاع عنها، هي تلك التي حدّدها المثل القبلي القائل "أرضك وعرضك". وما يُهدِّد اﻷرض هنا، هو اﻵخر الذي يُرى إلى وجوده على أنه تدنيس لمقدس تمثله اﻷرض ذاتها، اﻷمر الذي يستوجب تطهيرها بطرد اﻵخر منها، وتحويلها إلى محميات مقدسة، تتولى الحواجز اﻷمامية مهمة حمايتها من دنس الغريب.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: تاريخ الرواية الحديثة
والغريب لم يكن يُعرّف، زمن الحرب اﻷهلية اللبنانية، بناءً على هويته الطائفية وحدها، بل على انتمائه السياسي الذي يحيل إلى آخر عائلي/ عشائري أيضًا. هذا بالضبط ما يفسِّر مهاجمة قوات من "حزب الكتائب" قرية يدين سكانها بالولاء لريمون إده، والتنكيل بأبنائها المسيحيين. وهو ما يفسِّر أيضًا إغارة قوات تتبع الحزب نفسه، على بلدة "إهدن" وقتلهم النائب طوني فرنجية وأسرته. وفي الحالتين، كان الطرف المستهدِف ينتمي إلى نفس طائفة الطرف المستهدَف، غير أن اﻷخير ينتمي، في نظر اﻷول، إلى عشيرة مختلفة بل وعدوّة. وهذا يكفي في أعراف تلك الحرب، لعدِّه غريبًا.
في العودة إلى مفهوم الغريب الدنِس، والحمى المقدس الذي توكل مهمة حمايته إلى حواجز أمامية تمارس وسائل مختلفة للكشف عن الهوية، تشمل التحقق من اللهجة والكشف عن العورة لمعرفة ما إذا كان مختونًا أم لا، يشير صاحب "تاريخ لبنان الحديث" إلى العرف القبلي الذي يمنح من يلجئ إلى حمى اﻵخر، حتى وإن كانت يداه مضرجة بدماء أحد أبناء قبيلة اﻵخر ذاته، الأمان بمجرد قوله "أنا دخيلك" لشيخ القبيلة الذي سيعفي عنه ويشمله بحمايته. غير أن هذا المصطلح، أنا دخيلك، اتخذ معنى التوسل والتضرع غير المجدي في الحرب الأهلية اللبنانية، ذلك أن القبيلة الحديثة، وفق طرابلسي، تصم آذانها عن تقاليدها القديمة.
القناص وتفريد الجماعة
يرى فواز طرابلسي إلى القناص في الحروب اﻷهلية، على أنه مسخ حداثي لـ "المنتقم" القبلي، الذي يتطوع لغسل العار بالدم، أو الرد على الثأر بالثأر، ويتلقى الضربات اﻷشد إيلامًا في وقائع الثأر وساحاته. والقناص، بمعنى آخر، صياد يعمل على حسابه الخاص، ويؤمن بأن الفرد يحمل جميع خصائص جماعته، وأن قتله يعني قتلهم جميعًا، وعلى هذا اﻷساس يجري تبرير العقاب الجماعي.
لا يشبه القناص في الحروب اﻷهلية، قناص الحروب الكلاسيكية أو حركات التحرير الوطنية. مما يعني أن مهمته تختلف بالضرورة عما هو شائع، حيث تنحصر في اﻹبقاء على توتر أمني، دون أن يؤدي ذلك إلى حدوث اشتباكات، من خلال قطع طريق من الطرقات كدلالة على أن الوضع ليس آمنًا. باﻹضافة إلى قتل المدنيين وزرع الخوف من الموت في الجهة الثانية المعادية. هكذا، يكون نشاط القناص، كما يوضحه المؤلف: "التطبيق العملي لتفريد الجماعة بمعنيين: الجماعة - جماعته - تتجسد هنا بفرد يمارس العقاب باسمها. وعكسًا، الجماعة المعادية تتفرّد، أي تصير كثرة من اﻷفراد، يجدر - إن لم نقل يحلو - قتلهم". وهذا التفريد ينفي، بل يلغي، وجود أبرياء في الحرب، طالما أن الفرد يحمل الجماعة، جماعته، في ذاته.
القناص صياد يعمل على حسابه الخاص، ويؤمن بأن الفرد يحمل جميع خصائص جماعته، وأن قتله يعني قتلهم جميعًا
لا يكتفي القناص بقتل اﻷبرياء، بل يحرص على اغتيال الحياة ذاتها وفق مؤلف"الديمقراطية ثورة" الذي يضرب من مصير بطلة رواية حنان الشيخ "زهرة" مثالًا على ما يقول. فالبطلة التي تحمل اسم زهرة، وقعت في غرام قناص جامعته وحملت منه. وما حملته في أحشائها يجسِّد الحياة، أي نقيض القناص الذي يرى في الجنين موته، فيسارع إلى قتل زهرة ليتخلص مما في رحمها.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "كل رجال الباشا".. "أمجاد" محمد علي كما رآها الفلاحون
في المحصلة، أعادت الحرب اﻷهلية اللبنانية، شأنها شأن جميع الحروب اﻷهلية اﻷخرى، صياغة الكثير من القوانين واﻷعراف والتقاليد القبلية وغير القبلية. وأفرزت، في المقابل، صيغًا سياقية مشوهة منها. بينما تنكرت ﻷخرى وشذت عنها، بل وانقلبت عليها أيضًا. فإذا كانت الغاية من العنف الذي يُقصد به قتل المذنبين أو القتلة، في النظامين العرفي والقانوني، هو خداع العنف ومنع تفشيه في المجتمع، عبر مبادلة الدم بالدم في النظام اﻷول، وقتلِ القاتل في الثاني؛ فإنه في الحرب اﻷهلية اللبنانية لم يكن يركّز أساسًا على قتل المذنبين، ولم تساهم ممارسته، على غير المذنبين، في خداع العنف أو في إهماده، بل إن مبدأ تبادل الدم نفسه لم يكن متكافئًا في سياق هذه الحرب التي كانت، في أحد أشكالها، حلقة ثأر مفرغة.
اقرأ/ي أيضًا:
قبل أن تتخلى الولايات المتحدة عن الرأسمالية.. رسائل تشي جيفارا غير المنشورة