كما هو متوقّع، توّج الفرنسي كريم بنزيما بجائزة الكرة الذهبية لعام 2022، جائزة خلّدت مسيرة كفاح متواصل، في تجربة رياضيّة وإنسانيّة فريدة.
مساء أمس الإثنين، احتضنت العاصمة الفرنسية باريس حفل جائزة الكرة الذهبية، والتي تمنحها مجلّة فرانس فوتبول، جرى خلاله توزيع جوائز متنوّعة، كجائزة أفضل حارس التي نالها البلجيكي تيبو كورتوا، وأفضل لاعب شاب نالها متوسط ميدان برشلونة جافي، وجائزة جيرد مولر التي تمنح للهدّاف ونالها ليفاندوفسكي، كذلك جائزة سقراط التي تمنح لأصحاب المشاريع الخيرية، والتي كانت من نصيب ساديو ماني، فيما نالت الإسبانية أليكسيا بوتياس جائزة الكرة الذهبية لأفضل لاعبة للعام الثاني على التوالي.
الأنظار كلّها اتّجهت نحو كريم بنزيما، هو سيّد الحفل الأوّل، ففي سابقة نادرة الحدوث، أدرك الجميع مسبقًا أن الكرة الذهبية ستكون من نصيبه، ولم يختلف اثنان على أحقيّته بها، من أجل ذلك قدم أساطير كرة القدم أمثال زين الدين زيدان ولويس فيغو وآخرين، كذلك عائلة كريم بنزيما، كلّهم أتوا لمشاركته الفرحة، جميعهم أدرك قيمة هذه الجائزة لإنسان ككريم بنزيما.
لست مضطرًا لقراءة المزيد من الكتب عن التنمية البشرية والتفوّق على الذات، يكفيك أن تجري مسحًا سريعًا على مسيرة كريم بنزيما، وستجد حلولًا لمشاكلك مهما صعُبت.
لا تمثّل هذه الجائزة إنجازًا رياضيًّا لكريم بنزيما فحسب، بل تخلّد مسيرة كفاح متواصل، في تجربة إنسانيّة فريدة ستحكي عنها الأجيال القادمة، لست مضطرًا لقراءة المزيد من الكتب عن التنمية البشرية والتفوّق على الذات، يكفيك أن تجري مسحًا سريعًا على مسيرة كريم بنزيما، وستجد حلولًا لمشاكلك مهما صعُبت.
كشابٍ عاشق لكرة القدم، بدأ الفرنسي ذو الأصول الجزائرية مسيرته مع ليون، في حقبة ذهبية توّج فيها النادي بسبعة ألقاب متتالية في الدوري الفرنسي، أتى كريم بنزيما في منتصفها وكان له نصيب جيّد من البطولات تلك، ومع سطوع نجمه كسب ريال مدريد توقيعه في عام 2009.
لم تكن توجد مساحة في ريال مدريد من أجل سطوع نجم كريم بنزيما، الفريق متخم بالأساطير من الحارس حتى المهاجم، خطوط الميرينغي الأمامية كانت مزدحمة بالأسماء الكبيرة أمثال كريستيانو رونالدو وراؤول غونزاليس وغونزالو هيغوايين وفان دير فارت، هنا كان التحدّي لبنزيما أن يكسب مكانه في التشكيلة الأساسيّة، ومع مرور أشهر كثيرة نجح في ذلك.
الأصعب من ذلك كلّه أن بنزيما أتى لريال مدريد في فترة استثنائيّة للغاية، حقبة الجيل الذهبي لبرشلونة الذي اكتسح جميع من واجهه، وكسب كلّ الألقاب الممكنة، بقيادة غوارديولا الذي ملك أدوات كليونيل ميسي وتشافي وانييستا وبويول.. وآخرين تعلمونهم جيّدًا.
ومع مضي السنوات استعاد ريال مدريد هيبته أمام الغريم برشلونة، ونجح في كسب اللقب العاشر في دوري أبطال أوروبا بقيادة كارلو أنشيلوتي عام 2014، ثمّ نجح زين الدين زيدان في قيادة ريال مدريد لثلاث بطولات متتالية بدوري الأبطال من أعوام 2016- 2017-2018، وفي هذه البطولات كان حضور كريم بنزيما مهمًا للغاية، خصوصًا في اللحظات الحاسمة، والأمثلة كثيرة على ذلك أبرزها استثماره لهفوات حارسي بايرن ميونيخ وليفربول، لكنّ الفضل كان يُنسب دائمًا لغيره، لم يكن كريم محبوبًا من قبل الجماهير، لأنّه لم يكن النجم الأوّل على الإطلاق، ولم يكن الثاني أو الثالث أيضًا.
فلنرجع قليلًا حتى عام 2015، كانت فرنسا تتأهّب لاستضافة كأس أمم أوروبا، كريم بنزيما كأي لاعب حلم بالتتويج بلقب يورو 2016 في بلده الأم، هو أحد نجوم ريال مدريد وتعوّل عليه الجماهير الفرنسيّة الكثير، لكنّ الاتحاد الفرنسي لكرة القدم أعلن إيقاف بنزيما عن المشاركة مع منتخب بلاده، بعد اتهامه بالتورط في عملية ابتزاز زميله ماتيو فالبيونا بفيديو جنسي مصوّر، كلّ ذلك حدث في أواخر عام 2015، أي قبل أشهر قليلة من انطلاق بطولة اليورو، والتي تابعها معنا بنزيما على الشاشات، وتحسّر كثيرًا على عدم مشاركته خصوصًا مع خسارة فرنسا المباراة النهائية أمام البرتغال، فالحاجة لتواجده كانت ملحّة، وربّما تغيّرت وجهة الكأس لو حضر بنزيما.
أمور كهذه كفيلة بتدمير مسيرة لاعب مهما زاد بريقه، فضائح ومحاكم وحرمان من اللعب، وفي واقع موازٍ كان يلعب في الظلّ كالجندي المجهول، المديح ينهال على رفاقه، ولا يأتيه سوى صافرات الاستهجان، ربّما كان بنزيما بالفعل يقدّم مستويات كارثيّة على سبيل إهدار الفرص السهلة، لكنّه حمل على عاتقه إفساح المجال لنجوم آخرين كي يبدعوا في أرضيّة الملعب، فسخّر طاقاته لخدمة الفريق عبر خدمتهم، فلم يدرك الجميع ذلك.
الاستقواء على بنزيما تحوّل إلى ظاهرة عامّة، فأصبح يلام زين الدين زيدان على إشراكه بنزيما، وصلت الأمور إلى اتّهام المدرّب بمحاباة مواطنه الفرنسي، وهي أمور لم يتكلّم بها عامّة الناس، بل عدد من المتخصّصين بالرياضة، كذلك وصل الأمر في كثير من الأحيان إلى معلّقي كرة القدم، فقد حرّضوا من حيث أدركوا أو لم يدركوا المشجّعين على نبذ بنزيما، كان المعلّقون يتفنّنون في إهانته، استخدموا عبارات تصفه بالفاشل أحيانًا، والمنحوس تارة أخرى، ومعذّب القلوب ومسبّب الأمراض لمشجّعيه.
أصبح كريم بنزيما محرومًا من تمثيل بلاده، وتائهًا بين المحاكم الفرنسية، ومكروهًا في ناديه من قبل الجماهير، رغم كلّ ما قدّمه للفريق من عطاء، خصوصًا مساهماته في الثلاثيّة الأوروبية المتتالية، فأيّ حال صعب مرّ به المهاجم الفرنسي، ومتى سيرفع راية الاستسلام أمام صافرات الاستهجان التي طالته؟
نبذه الكثيرون من أبناء جلدته، ولم يقصّر في ذلك أيضًا مناصرو ناديه، طاردته الصحافة والمحاكم، شتمه البعض، أهانه آخرون، لكنّ الجميع صفّق له فخرًا واعتذارًا في الوقت نفسه، حينما حمل الكرة الذهبيّة
انتهت حقبة كريستيانو رونالدو مع ريال مدريد، ورحل زين الدين زيدان، كذلك العديد من نجوم الفريق، هنا تصدّى كريم بنزيما للمهمّة، وقدّم مستويات استثنائيّة حافظ خلالها على كبرياء الميرينغي، وفي الموسم السابق 2021-2022 انفجرت طاقات صاحب الـ34 عامًا، حدث ذلك بأساليب ممزوجة بين الغرابة والأسطورة، كلّ الإحباطات محاها كريم، وأفرح الجميع من أجله، من انتقده من عشّاق الريال قبل غيرهم، الجميع أراد في حفل باريس أمس الإثنين أن يصفّق لكريم، من أجل تحيّته، والاعتذار له.
ففي موسم 2021-2022 لم يكن أكثر المتفائلين بريال مدريد يتوقّع ما حدث، كريم بنزيما تألّق بشكل كبير في الدوري الإسباني، قاد ناديه للبطولة، وتوّج هدّافًا لها بفارق شاسع عن أقرب ملاحقيه، كذلك عاد لمنتخب فرنسا بعد غياب دام قرابة ستّة أعوام، ليقود بلاده لنيل دوري أمم أوروبا، لكنّ ذلك لم يشبع نهم جزائري الأصل.
لم يكن ريال مدريد أحد المرشّحين بقوّة لنيل دوري أبطال أوروبا الموسم الماضي، ثمّة فرق قويّة للغاية حظّها وافر أكثر من سيّد هذه البطولة، باريس سان جيرمان كان قريبًا جدًّا من بلوغ ربع النهائي، لكنّ بنزيما ظهر في الوقت المناسب، وأطاح بأحلام الفرنسيين بسبعة عشر دقيقة فقط، سجّل ثلاثة أهداف احتاجها فريقه كاملة للإطاحة بأبرز المرشّحين لنيل اللقب.
اللحظات الدراميّة استمرّت في ربع النهائي أمام تشيلسي الإنجليزي حامل اللقب حينها، الريال حقّق الانتصار ذهابًا في لندن، وإيابًا كان تشيلسي في طريقه لتحقيق عودة تطيح بالميرينغي، وبعد التمديد حسم الريال التأهّل لصالحه بمجموع نتيجتي المباراتين 5-4، أتعلمون ماذا فعل بنزيما؟ لقد سجّل أربعة أهداف من تلك الخمسة..
تخلّص ريال مدريد من باريس سان جيرمان، ومن تشيلسي حامل اللقب، واصطدم في نصف النهائي بمانشستر سيتي أقوى فريق في الكرة الأرضيّة وقتها، لكنّ كريم بنزيما قاد فريقه لتأهّل أسطوري إلى المباراة النهائيّة، بحصيلة مواجهتين 6-5، سجّل بنزيما ثلاثة أهداف في شباك السيتيزينس بلقائي الذهاب والإياب، إلى أن واجه ليفربول في النهائي، وقاد فريقه لنيل اللقب الإعجازي، ومن حينها، أيقن الجميع أن كريم بنزيما نجم الموسم الأوّل دون منازع.
هي حكاية تدرّس للأجيال، وقصّة كفاح تاريخيّة نجح خلالها كريم بنزيما في التفوّق على نفسه، في لحظات كان خلالها أتعس لاعب في الكوكب، نبذه الكثيرون من أبناء جلدته، ولم يقصّر في ذلك أيضًا مناصرو ناديه، طاردته الصحافة والمحاكم، شتمه البعض، أهانه آخرون، لكنّ الجميع صفّق له فخرًا واعتذارًا في الوقت نفسه، حينما حمل الكرة الذهبيّة أمس الإثنين.