لم يخلُ تاريخ الفلسفة من اهتمام بالجانب الفرداني عند الإنسان، وتجلى ذلك في الفلسفة الإغريقية وبعض فلسفات عصر النهضة، لا سيما في تركيزهما على الحقل النفسي المهتم بالأخلاق وسعادة الفرد، وتكمن أهمية هذا الحقل المعرفي في إنه يعمل على مواءمة الطبيعة البشرية مع العالم الخارجي وتناقضاته.
لكن مع سقراط ومع المدرستين الرواقية والأبيقورية التي جاءت بعد أرسطو؛ كانت هناك صبغة ذاتية واضحة اصطبغت بها الفلسفة، وهذه الصبغة الذاتية كانت نابعة من الرؤى التي تفرضها تجارب الحياة الشخصية على الإنسان مضافًا إليها الحكمة والتأملات العميقة في رحلة الحياة وصيرورة الزمن.
لم يكن الجانب الشخصي في الفلسفة إلا محاولة لترميم الصدع الذي أصاب الكيان الإنساني، وبالتالي فقدانه لبوصلة التفكير الذي يجب أن يكون منفصلًا عن جميع الحقائق والموضوعات الخارجية، ومتصلًا أكثر مع الذات ورغبتها المستمرة في الحياة والخلق المتجدد.
لم يكن الجانب الشخصي في الفلسفة إلا محاولة لترميم الصدع الذي أصاب الكيان الإنساني، وبالتالي فقدانه لبوصلة التفكير الذي يجب أن يكون منفصلًا عن جميع الحقائق والموضوعات الخارجية
هناك محاولات للاستقلال الذاتي في الفلسفة أدت إلى نشوء ظلال باهتة للوجودية في اعترافات القديس أوغسطين، وكتاب الخواطر لبليز باسكال، لكن لا يمكننا الحديث أبدًا عن أي فلسفة وجودية دون التطرق لواضع أركانها وصائغ مفاهيمها الأولى الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغورد، فالفلسفة الوجودية تسخر الفكر من أجل خدمة الإنسان وفردانيته المنفصلة عن الجموع، والإنسان يفكر من أجل العيش، ولا يعيش من أجل أن يفكر. إذًا فالوجودية هي أسلوب في التفلسف أكثر منها مذهب فلسفي، وهذا الأسلوب يركز على الوجود العيني للإنسان ليس كذات مفكرة أو عارفة، وإنما يدمج مع الفكر الانفعال العاطفي والوجداني وكل شعور أولي يتجه خارج الذات. بهذا يتحدد الكوجيتو الديكارتي عند الوجوديين في الوجود الذي يسبق الماهية ليصبح كالتالي: أنا موجود إذًا أنا أفكر.
كذلك لا نستطيع أن نفصل بعض الفروع التي انبثقت لاحقًا من الفلسفة الوجودية المتمردة، والتي ظهرت مع ألبير كامو كالعبث واللامعقول، دون الرجوع إلى كيركيغورد مع اختلاف التسميات والمفاهيم. فاللاجدوى عند كامو تتأسس على قاعدة اليأس عند كيركيغورد. حتى الفيلسوف نيتشه وبكل ما جاء به من تفكيك وهدم للأخلاق والمعرفة البشرية، لا يمكننا أن نفصله عن عوالم كيركيغورد، فتلك العظمة الروحية عند كيركيغورد في فارس الإيمان تتقاطع مع نيتشه في مفهوم الإنسان المتفوق أو الأسمى، وبواكير العدمية الفردية وانتفاء كل معنى في الحياة لم يظهرا إلا في فلسفة كيركيغورد أول مرة.
الفلسفة تبدأ من اليأس
اشتبك كيركيغورد في صراع مع المذهب الهيغلي، لأنه كان يعتقد أن حدود معرفتنا وخبرتنا محدودة وغير واضحة المعالم، فالحقائق الموضوعية تبقى نسبية وضمن حدود التجربة الإنسانية ولا يمكنها أن تعرف العالم معرفة مطلقة إلا بوجود عقل يصل إلى مستوى الألوهية. لم يكن كيركيغورد ثائرًا فقط ضد فلسفة هيغل وعقله الشمولي، وإنما وضع الفلسفة برمتها موضع تساؤل. لقد قام بتحطيم الأسس العقلية والمنطقية التي قامت عليها الفلسفة الإغريقية، ونبذ في تاريخ الفلسفة كبار العقول مثل افلاطون وأرسطو وحتى سقراط، واستشهد بمن رفعتهم المعاناة إلى ذروة الحرية المتوجة بالإيمان، كالنبي إبراهيم والنبي أيوب.
يشير الكاتب والفيلسوف الروسي ليون شيستوف (1866 - 1983) بأن كيركيغورد كان مشدودًا بقوة إلى سفر أيوب، إذ كان يعتبره أكثر الأسفار إنسانية في الكتاب المقدس. فصرخة أيوب ليست مجرد صرخة، بل نحيب أبدي أيقظ في أعماق كيركيغورد عذاب الإنسان ورعب الحياة، تلك الصرخات البشرية النابعة من الألم والمعاناة الطويلة؛ اعتبرها كيركيغورد أصدق تعبيرًا من كل الحقائق والبديهيات. فأيوب لم يجرؤ على تحدي الحقائق الدامغة إلا في اللحظة التي انصهرت فيها كل الآلام وتخطت الخيال الإنساني.
يقول كيركيغورد في إحدى شذراته: "وحده الرعب المتأتي من اليأس يوقظ في الإنسان كيانه الأعلى".
إن الفلسفة كما يبدو لنا تأخذ منحى آخر عند مؤلف مفهوم الفزع، وكتاب الخوف والرعشة، لتتجه نحو الهروب الدائم من سلطة العقل، والفلسفة التي تحددت بداياتها الأولى مع الدهشة أو الاندهاش، فإنها تبدأ عند كيركيغورد من اليأس ومن العالم الداخلي عند الإنسان. فكل فلسفة تأملية أو عقلية كانت دائمًا تحاول انتزاع الفكر الإنساني من جذور الكينونة.
يقول الفيلسوف الرواقي أبكتيكوس: "إن الفلسفة هي الوعي بعجزنا أمام الحاجة". وبناء عليه يتحدد الفكر الفلسفي أمام الحاجة بذلك اليأس الذي يكون فيه الإنسان موجودٌ أمام المستحيل. حيث ينتهي كل شيء، ويصبح الصراع عديم الفائدة.
مفهوم الحرية بين كيركيغورد وياسبرز وسارتر
في كتاب العزلة والمجتمع يعلل الفيلسوف الروسي نيقولاي برديائف الدافع الحقيقي الذي يكمن وراء أسس الفلسفة الوجودية عند كيركيغورد؛ بشعوره الدائم بالقلق، والناتج من مأساة حياته الشخصية، الأمر الذي أدى بتجربته الفاجعة هذه إلى تأكيد الطابع الوجودي للذات العارفة، وهي الحقيقة الأولى عن استغراق الإنسان في سر الوجود.
يرى كارل ياسبرز أن الفلسفة ليست حكرًا على كبار العقول والمفكرين، وإنما يمكن لأي فرد أن يتفلسف وإن يكون فيلسوفًا، انطلاقًا من معاناته الشخصية ومن وعيه بيأسه وعجزه أمام المستحيل
إن الفلسفة التي تبدأ عند الإنسان بعد المعاناة ورحلة العذاب الطويلة، نجد لها أثرًا واضحًا في الوجودية الحديثة، وتحديدًا عند الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز، إذ يرى أن الفلسفة ليست حكرًا على كبار العقول والمفكرين، وإنما يمكن لأي فرد أن يتفلسف وإن يكون فيلسوفًا، انطلاقًا من معاناته الشخصية ومن وعيه بيأسه وعجزه أمام المستحيل، فكل إنسان معرض لليأس والذنب والمرض وغيرها من أنواع المعاناة القاهرة، ويسمي تلك المرحلة بالتحطيم، ولا يقصد ياسبرز بالتحطيم بمعنى الانهيار أو الموت، وإنما بتلك الهزة التي تصيب الفكر، والتي تؤدي إلى خلق الوجود الفردي على أنقاض الآلام والأوجاع، ثم بعدها تأتي مرحلة العلو أو التجاوز وهي المرحلة التي تختار فيها الذات الجديدة العيش بحرية تامة متعالية عن كل عذابات وآلام الماضي.
إن مفهوم التحطيم والوجود الحر عند ياسبرز هو مفهوم كيركيغوردي أصيل في فلسفته الوجودية وقد تطرق له في كتابه المرض حتى الموت، فاليأس الذي يصيب الإنسان هو أحد أهم العتبات للانطلاق إلى الحرية، والحرية التي يقصدها كيركيغورد هو هذا الوجود المتعالي الذي يقذف المرء في أحضان الإيمان، كذلك الرعب والقلق الذي ينتجه العدم هو شرط أساسي لتلك الحرية التي يسقط فيها الفرد في أحضان الإيمان. فالرعب المحدق بنا ينشأ من دوامة الاختيارات التي تحيط بالإنسان وتنقله إلى المجهول دون أن يملك اي تصور عن وجوده المقبل، ويكون مجبرًا أن يتخذ موقفًا أو يقوم بفعل ما، وهنا نصبح مجبرين على الحرية، إن تصور الحرية هو الذي يوقظ فينا هذا الرعب أو الفزع ويجعلنا نصاب بالدوار، ويطلق كيركيغورد على هذا الموقف بدوار الحرية. وهذا المفهوم هو أحد المفاهيم الأساسية في فلسفة سارتر، إذ يرى أن الإنسان محكوم بالحرية ومدان بها، ولا شيء يمكن أن يمنعه من حرية الاختيار أو القرار، وحتى عدم الاختيار هو اختيار، والهروب من الحرية هو حرية أيضًا بنظر سارتر، لكن سارتر يختلف عن كيركيغورد وعن غيره من الوجوديين؛ بأنه يرفض الجانب الروحي عند الإنسان أو الباطني، ويرفض كل فكرة دينية تسبغ على العالم تصوراتها ومعانيها، ويرى أن واقع الإنسان محكوم بالعمل الدائم، والإنسان هو الذي يخلق المعاني والقيم الأصيلة في عالم خالٍ من الأخلاق والماهيات المسبقة.
الوجود الخيالي عند كيركيغورد.. مقابل الوجود الأصيل عند هايدغر
لقد قام البنيان الفلسفي عند الفيلسوفين الالمانين مارتن هايدغر وكارل ياسبرز، على شموخ الروح المحلقة في فلسفة كيركيغورد وتأملاته التي تمس الأعماق السحيقة عند الإنسان.
في كتاب الكينونة والزمان لمارتن هايدغر نلاحظ هذا التقارب الشديد مع كيركيغورد عندما يتم التطرق إلى الوجود الأصيل والوجود المبتذل عند الإنسان. ويقصد بالوجود الأصيل هو ذلك الوجود الذي يكون فيه الموجود أصيلًا، بالقدر الذي يشكل فيه ذاته وصورته الخاصة، منفصلًا عن المؤثرات الخارجية والظروف كالسلطات الدينية والسياسية والشرائع الأخلاقية، ومعيار الوجود الأصيل هو معيار صوري وليس مادي. أما الإنسان الدازاين الذي يتحدث عنه هايدغر هو الذي يسعى دائمًا إلى ترسيخ وجوده الأصيل والمتفرد في العالم، ويعي ذاته بوصفه كينونة متناهية في الزمان، وهذه الكينونة عبارة عن مشروع وإمكانية في المستقبل، وهذه الكينونة لا تكون اصيلة إلا بعاطفة القلق، والمقصود هنا ليس القلق المرضي، وإنما القلق الوجودي الذي يستيقظ فجأة من ظلمة الذات وأعماقها المرعبة، فينكشف أمامها العدم، ويتخلل نسيج الحياة بأكملها. وبالتالي يعلو الإنسان على الوجود الزائف الذي يتسم بالثرثرة والتفاهة وحب الفضول، ومن يحيا وجودًا زائفًا نجده يتجنب قلق التفكير بالموت، ويكون دائم الهروب منه بالابتذال والسخرية والسقوط في مشاريع الآخرين وأفكارهم.
إن الوجود الأصيل عند هايدغر هو نفسه الوجود الشعري أو الخيالي عند كيركيغورد، وهي تلك الذات التي تعي نفسها كروح، وتكون واقعة في إمكانية الأبدية، ويتميز هذا الوجود الخيالي عن الوجود الزمني بذلك الخيال الشعري وبتلك العاطفة الروحية التي تسمو فوق الوجود اليومي والزمني.
دوائر العدم المتقاطعة عند الوجوديين
إن الإنسان كائن يتجاوز ذاته نحو المستقبل، ومعنى وجود المرء هو أن يلقى بنفسه في المستقبل، وبهذا يتضح لنا إن الإنسان رغم تناهي كينونته في الزمان إلا أنه يعيش في توتر وصراع مع الأبعاد الزمنية في داخله ويسعى دائمًا لبلوغ التجربة كلها، أو مباشرة الاكتمال الذي يمكن أن يجمع في ذاته بين الماضي والحاضر والمستقبل.
يذكر الكاتب وأستاذ اللاهوت الامريكي جون ما كوري في كتابه عن الوجودية: إن عدم تحقق الموجود البشري في المستقبل يصطدم بمجموعة من العراقيل تمنعه من تحقيق ذاته بوصفه وجودًا أصيلًا، والذي من الممكن أن يبتلعه الوجود غير الأصيل في إمكانية الاحتدام والصراع بين الأنا والآخر
وأولى هذه الحالات هي حالة اللاتوازن عندما يكون هناك تأكيد مبالغ على الإمكان وعلى المستقبل، فينحصر عمل الإرادة فيما هو مقبل، فتتحول تلك الإرادة عن وجودها الحقيقي والأصيل لتصبح مجرد أمنية أو شطحة من شطحات الخيال. كذلك يؤدي الانشغال بالماضي إلى اضطراب مناظر له، فقد يؤدي إلى ما يشبه الشلل لكل إرادة حقيقية، والذي يحدث بدوره قلقًا حول اتخاذ أي موقف أو قرار يعرض الفاعل لتغيير جذري.
يتكلم جون ماكوري أيضًا عن توازن اللاحاضر وهي الحالة التي يتجه فيها الإنسان إلى الضياع والتشتت في الحاضر، فيكون بلا إرادة، مفتقرًا للعزم. وقد أصبح إنسانًا ممزقًا يترك الآخرين ليقرروا عنه، أو يصبح مستعبدًا لنظام أو عقيدة تهندس له وجوده وتقرر ظروف حياته.
الذنب عند هايدغر هو نقص في الوجود، إذ يتسم الإنسان في صميم وجود ذاته بالانعدام، وعلى أساس هذا الانعدام لا بد أن يأخذ على عاتقه مسؤولية وجوده
إن عدم التناسب بين الذات على نحو ما يلقى بها في المستقبل، والذات على ما هي قائمة بالفعل يسمى بالشرخ أو الصدع، وهذه الفجوة هي التي تقوم بين الوجود والماهية أو بين الواقع والإمكان. فالإنسان من حيث هو وجود حر متناه مكون على نحو يجعله عرضة للسقوط على حد تعبير هايدغر، ويمكننا أن نطلق عليه الذنب أو الاغتراب وفقًا للعوامل والحالات التي ذكرناها.
والذنب عند هايدغر هو نقص في الوجود، إذ يتسم الإنسان في صميم وجود ذاته بالانعدام، وعلى أساس هذا الانعدام لا بد أن يأخذ على عاتقه مسؤولية وجوده.
تعتبر مقولة التجاوز أو العلو من المقولات الوجودية الهامة، وهذا التجاوز يسميه هايدغر بالميتافيزيقيا، لكن ليست الميتافيزيقيا على طريقة اللاهوت أو الأساطير، إنما تلك النزعة العدمية التي تستحوذ على الإنسان عندما لا يحقق وجوده الجديد، وتنفلت منه جميع الكينونات، حينها تدرك الذات غربتها وتناهيها في الزمان، وبذلك تعلو عن كل موجود من الموجودات، وهذا العلو هو الشرط الأسمى للكينونة عند هايدغر وهو سقوطها في العدم.
عالج سورين كيركيغورد حالات السقوط عند الإنسان، كالرعب والفزع واليأس والخطيئة وربطها بخفايا الروح الباطنة وصيرورتها غير المرئية، ورأى أن الوعي العميق بتلك المشاعر الغامضة والتي قد تداهم الفرد بدون أي سبب؛ هو من يربط الفرد بالأبدية وهو حركة ضرورية للذات التي حددت كروح، وتلك الحالات ليست أمراضًا نفسية، لكنها عبارة عن اختلال في توليفة العناصر المتناقضة في النفس البشرية والتي تحتوي على الزمني والأبدي، بذلك لا تسقط الذات ولا تنسحق في دوامة الألم إذا لم يكن هناك شيء خالد يرفعها لمرتبة عظيمة فوق الوجود المادي والمحسوس، وهنا يتكامل العلو والسقوط، ويتسلل وهج الأبدية إلى كينونة الإنسان وزمانه الفاني.
يتضح لنا مما سبق أن هناك جوانب روحية ترتبط بميتافيزيقيا الذات حتى عند التيار الوجودي الذي يسمى ملحدًا إن صحت التسمية، فالعدم المقصود ليس العدم المحض، وليس النهاية الحتمية للكينونة، بل انعدام الإمكانية، الغياب، القلق، اليأس، الفزع، الاغتراب، اللاجدوى.. وحتى لحظات النشوة الباطنية لا يخلو سرها العميق من توحد مع العدم.
إذا كان كارل ياسبرز يرى أن مرحلة التحطيم عند الإنسان هي أساس الوجود الحر، وهذه الحرية تكون باطنية، فجميع المشاعر والانفعالات التي تسبق تلك الحرية هي سقوط في العدم، هذا السقوط في العدم عند الوجوديين هو الهاوية التي تقفز منها الحرية الأسمى وتحلق عاليًا، والتي تتجلى بالإيمان عند كيركيغورد، وبالعلو عند هايدغر وياسبرز، وبالعمل والاختيار الحر عند سارتر. يقول برديائف: إن الحرية تضرب جذورها في اللاوجود. الحرية كامنة في خواء العدم.
بين كيركيغورد وكامو.. أين يتقاطع التمرد والإيمان؟
تمثل الأخلاق والمنطق ذروة اللامعقول عندما تعد الإنسان بالسعادة والخلاص، وقد كان كيركيغورد على وعي تام بهذا الأمر وهو يرى الأنبياء والقديسين في تاريخ البشرية وقد كابدوا من العذاب والمصائب الكبرى ما لا يحتمله أي إنسان، رغم أخلاقهم وفضائلهم في الحياة، لذلك وجد أن الإيمان هو القيمة الروحية التي تحطم جميع التناقضات وتسمو فوقها، ويجب أن يعلو هذا الإيمان فوق العقل والغايات، وإن يستند إلى قاعدة أساسية منبعها التمرد ضد الأخلاق السائدة التي لا تقي الإنسان من الشرور والمآسي، فمفهوم الإيمان عند كيركيغورد لاعقلاني ينطلق من العبث والتمرد، ويأتي الإيمان في ظل احتجاب جميع الإمكانيات وغيابها بوصفه أقصى حرية يبلغها الإنسان في هذا العالم.
عالج سورين كيركيغورد حالات السقوط عند الإنسان، كالرعب والفزع واليأس والخطيئة، ورأى أن الوعي العميق بتلك المشاعر الغامضة هو من يربط الفرد بالأبدية
يرى كيركيغورد أن فضيلة اللامعقول تنجلي في الإيمان، وبهذا يمكننا النظر بجرأة في عيون الموت والجنون.
إن التمرد كما يذكر البير كامو يعتمد برمته على حركة التناقض، وهذا التناقض بين الذات والعالم الخارجي هو أهم الأفكار التي استندت إليها الوجودية، لذا يقوم المتمرد بالاحتجاج على وضعه وعلى الخلق كله، فهو ينكر الخلق والغايات جميعها بتحطيم كل قاعدة تستند إليها القيم الأخلاقية والإنسانية، وإن حركة الاحتجاج هذه وإن كانت متخلخلة في ظاهرها، لكنها تطالب بالوحدة والتماسك في عالم ممزق ومشتت.
خلف أعمال الشر المنبعثة من الوعي العميق للتمرد عادة ما تختفي قيم روحية غامضة تتقاطع مع الروح الباطنية عند بعض الصوفيين والمؤمنين في عزلتهم وانفصالهم، وهذا التقاطع يكون ضمن الرغبة في الكينونة التي تسعى نحو السيادة والامتلاء في عالم خاوٍ وهش. يقول ألبير كامو: "لا يوجد أي كائن اعتبارًا من أي مستوى شعوري ابتدائي لا يبذل قصارى جهده للتفتيش عن الصيغ أو المواقف التي تكسب وجوده الوحدة. وتتجلى هذه الوحدة في أعند مطالبها.. ديانة أو جريمة، كذلك إن الحركة ذاتها التي تدفع إلى عبادة الله أو إفناء الإنسان تقود إلى خلق العمل الفني. إن المتمرد في تجسده الأخير، وفي ختام رحلته المنهكة يعود إلى فكرة العقاب الدينية ويجعلها مركزًا لعالمه".