هذه المادة ترجمة للأصل المنشور في مجلة نيتشر العلمية.
لطالما تناولت قصص الخيال العلمي فكرة وجود ذكاء اصطناعي واعٍ، فمن أبرز الأمثلة عليها شخصية هال 9000، وهو كمبيوتر خارق تحول إلى شرير في فيلم 2001: A Space Odyssey الصادر عام 1968. بيد أنّ التقدم المتسارع للذكاء الاصطناعي ينزع الطابع الخيالي عن هذه الفكرة رويدًا رويدًا، بل إنّ كبار القادة في هذا المجال يقرّون بأنّ وجود الوعي لدى الذكاء الاصطناعي لم يعد ضربًا من ضروب الخيال؛ ففي العام الماضي غرّد إيليا سوتسكيفر، كبير العلماء في شركة أوبن إي آي (OpenAI) المطورة لروبوت المحادثة الآلي تشات جي بي تي (ChatGPT)، بأنّ بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي فائقة التطور قد توصف بأنها "واعية إلى حد ما".
ويرى باحثون كُثُر أنّ أنظمة الذكاء الاصطناعي ما بلغت بعدُ مرحلة الوعي، غير أنّ الوتيرة المتسارعة لتطور هذه الأنظمة تحثهم على طرح السؤال التالي: كيف يسعنا أن نعرف إن بلغت ذلك؟
ومن هذا المنطلق وضعت مجموعة من 19 شخصًا- بينهم علماء أعصاب وفلاسفة وعلماء حاسوب- قائمة من المعايير المختلفة، فإن استوفى نظام الذكاء الاصطناعي هذه المعايير، إذن ثمة احتمال كبير لأن يكون واعيًا. ونشر مجموعة العلماء دليلهم الأولي في موقع arXiv، قبل أن يخضع لاحقًا لمراجعة الأقران. ويقول روبرت لونج، المؤلف المشارك في هذا البحث: "بذل المؤلفون جهدًا كبيرًا في عملهم نظرًا للندرة الشديدة في المناقشات التفصيلية القائمة على أسس تجريبية وعملية بشأن الوعي لدى الذكاء الاصطناعي"، ومن المعروف أن لونج فيلسوف في مركز سلامة الذكاء الاصطناعي، وهي منظمة بحثية غير ربحية مقرها سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا.
ويشير الباحثون إلى التبعات الجوهرية والأخلاقية المترتبة على إخفاق العلماء في تحديد إن أصبح نظام الذكاء الاصطناعي واعيًا أم لا؛ فعندما نُصنّف شيئًا بأنّه واعٍ، فهذا الأمر "يُحدِث تغييرًا ملموسًا في تفكيرنا نحن البشرَ بالطريقة اللازمة للتعامل مع هذا الكيان" على حدّ قول ميجان بيترز، وهي مؤلفة مشاركة وعالمة أعصاب في جامعة كاليفورنيا.
ويرى لونج بحكم اطّلاعه أنّ الشركات المطورة لأنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة لا تعُنى حقًا بتقييم تلك النماذج على أساس الوعي، ولا تضع خططًا مسبقة لما يلزم فعله إنْ حدث ذلك، ويضيف لونج: "يتناقض هذا التهاون مع الملاحظات التي نسمعها من رؤساء المختبرات الرائدة، الذي ما ينفكون يقولون إنهم يتساءلون دومًا بشأن وعي الذكاء الاصطناعي، أو شعور الذكاء الاصطناعي".
يرى باحثون كُثُر أنّ أنظمة الذكاء الاصطناعي ما بلغت بعدُ مرحلة الوعي، غير أنّ الوتيرة المتسارعة لتطور هذه الأنظمة تحثهم على طرح السؤال التالي: كيف يسعنا أن نعرف إن بلغت ذلك؟
وتواصلت دورية نيتشر مع اثنتين من كبرى الشركات التكنولوجية العاملة في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة، وهما مايكروسوفت وجوجل؛ فقال متحدث رسمي باسم مايكروسوفت إن جوهر تطوير الشركة للذكاء الاصطناعي مرتبط بتعزيز الإنتاجية البشرية على نحو مسؤول، بدلًا من استحداث نسخة مكررة عن الذكاء البشري، فالأمر الجلي منذ إصدار جي بي تي 4 للعامة- أي الإصدار المتقدم من روبوت المحادثة شات جي بي تي- هو "الحاجة الماسة إلى الإتيان بمنهجيات جديدة لتقييم قدرات نماذج الذكاء الاصطناعي، على أن يتزامن ذلك مع استكشاف السبل الممكنة لبلوغ القدرات الكاملة للذكاء الاصطناعي بما يفيد المجتمع برمته". أما شركة جوجل فامتنعت عن التعليق على هذه المسألة.
ما الوعي؟
لا ريب أنّ تحديد معنى الوعي من أبرز العقبات التي تعترض دراسة الوعي لدى الذكاء الاصطناعي، وفي هذا الصدد تقول بيترز إنهم ركزوا على الوعي الظاهري المدرَك بالحواس لأغراض إعداد هذا التقرير، والمقصود هنا الوعي المعروف أيضًا بالتجربة الذاتية، أو بالأحرى تجربة الوجود؛ فما معنى أن تكون إنسانًا أو بهيمةً أو نظام ذكاء اصطناعي (إن تبين أنّ أحدها واعٍ حقًا)؟
وبطبيعة الحال توجد نظريات كثيرة تُعوّل على علم الأعصاب لوصف الأساس البيولوجي للوعي، لكن العلماء مختلفون حتى الآن بشأن تعيين النظرية الصحيحة منها. وعلى العموم اعتمد مؤلفو البحث على بعض هذه النظريات لوضع إطار عملهم، فهم إلى ذلك حدّدوا بأنّ توافق نظام الذكاء الاصطناعي في عمله مع جوانب كثيرة من تلك النظريات، يقتضي على الأرجح أنّه بلغ مرحلة الوعي.
ويرى المؤلفون أنّ طريقتهم نهجٌ أمثلُ بكثيرٍ لتقييم الوعي من تنفيذ اختبارات سلوكية على نظام الذكاء الاصطناعي، كأن يسألوا شات جي بي تي، مثلًا، إن كان واعيًا، أو تحدّيه واختباره ومعاينة استجابته عليهم. ويحتج المؤلفون بالقول إنّ تلك الأنظمة تطورت كثيرًا لحدّ أنها تبلي بلاء حسنًا في تقليد الإجابات البشرية.
ويصف المؤلفون نهجهم المتّبع بأنّه نظري محض، وهو إلى ذلك يعد وسيلة مفيدة للتقدم في هذا المجال حسب العالم في مجال علم الأعصاب أنيل سيث، مدير مركز علوم الوعي بجامعة ساكس في المملكة المتحدة، ويقول سيث إن البحث يبرز "الحاجة الماسة إلى وضع نظريات عن الوعي أدقّ وأكثر خضوعًا للتجربة".
نهج نظري محض
افترض المؤلفون عند وضع معايير البحث بأنّ الوعي مرتبط بطريقة معالجة الأنظمة للمعلومات، بصرف النظر عن ماهيتها، سواء أكانت خلايا عصبية أم شرائح حاسوب إلكترونية أم شيئًا آخر. ويسمى هذا النهج بالوظائفية الحسابية (computational functionalism)، وهم إلى ذلك افترضوا أيضًا أن نظريات الوعي المبنية على علم الأعصاب، التي دُرِسَت عند البشر والبهائم عبر مسح الدماغ وتقنيات أخرى، قابلة للتطبيق على الذكاء الاصطناعي.
وبعد ذلك اختار الفريق بناء على هذه الافتراضات ستة نظريات، ثم اقتطفوا منها قائمة بمؤشرات الوعي، ومن ضمن النظريات المنتقاة نظرية حيّز العمل الكلي (global workspace theory)، التي تدّعي أنّ البشر والحيوانات الأخرى يستخدمون عددًا من الأنظمة الاختصاصية، المعروفة بالوحدات، لأداء المهام المعرفية مثل الرؤية والسمع. وتؤدي هذه الوحدات وظائفها على نحو مستقل ومتوازٍ في الوقت عينه، فهي تتشارك المعلومات باندماجها في نظام واحد. ومن هذا المنطق يتأتى تقييم إن أبَانَ نظام معين للذكاء الاصطناعي عن مؤشر مأخوذ من هذه النظرية كما يقول لونج، إذ يكفي "أن نعاين بنية النظام وطريقة تدفق المعلومات عبره".
ولا يخفي سيث إعجابه بشفافية هذا الطرح من فريق المؤلفين فيقول: "إنّه بحث مدروس بعناية، وليس مجرّد طرحٍ منّمق وفضفاض، وإنّما يأتي بافتراضات واضحة حقًا. إنني لا أقرّ بعض تلك الافتراضات، ولا بأس في ذلك طبعًا لأنني قد أكون مخطئًا".
ويرى المؤلفون أنّ الورقة البحثية لم تبلغ بعدُ مرتبة الرؤية النهائية بشأن تقييم الوعي لدى أنظمة الذكاء الاصطناعي، ولا ريب أنهم يريدون مساعدة الباحثين الآخرين لتحسين نهجهم. ومع ذلك يسعنا تطبيق المعايير المذكورة في هذا البحث على أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية؛ فالتقرير يقيّم مثلاً عمل النماذج اللغوية الضخمة مثل شات جي بي تي، ويجد أنّ أنظمة كهذه تتضمن جدلًا بعض مؤشرات الوعي العائدة لنظرية حيّز العمل الكلي، بيد أنّ البحث لا يشير إلى وجود الوعي في أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية، أقلّه حتى وقتنا الحالي.