يروي الصحافيون قصصًا عن لبنانيين غلبتهم الفاقة ترتعش لها القلوب. لكنها في نهاية المطاف لا تعدو كونها أشبه بخطاب دقيق لمتسولين. إذ ما الذي يمكن عمله حيال هذه الأزمة؟ في حوادث سابقة، عمد مقتدرون لبنانيون وغير لبنانيين إلى تقديم مساعدات منتظمة لأسر وأشخاص انتشرت قصصهم في الصحافة. لكن المحسنون المقتدرون لا يستطيعون حل الأزمة وإنهاء الفقر والعوز. يستطيعون انتشال عائلة أو بضعة عائلات من فاقتهم، لكنهم قطعًا لا يستطيعون إطعام شعب كامل. ولكي نكون أكثر دقة، نصف شعب كامل بحسب تقديرات الأسكوا، حتى الآن.
السقف الذي ما زال يحتمل العواصف ويقي سكان الغرف العارية من شرها، ليس مصممًا للصمود طويلًا من دون صيانة
وصف الأحوال التي يعيشها اللبنانيون اليوم، تترك القارئ أو المشاهد بلا خيارات. المسألة ليست أن شخصًا يحتاج في هذه اللحظة إلى مبلغ من المال، وأنه سيستطيع الاعتماد على نفسه ما أن نؤمن له هذا المبلغ. المسألة أن الأفق مقفل تمامًا، وأن أي مؤسسة أو شخص أو دولة يعتزم المساعدة، سيعرف حكمًا، أن هذا التزام طويل الأمد بإعالة شعب لا حول له ولا قوة، ولا شيء في مستقبله يدل بأنه سيتجاوز محنته ذات يوم.
اقرأ/ي أيضًا: لبنان: رثاء النفس
في مثل هذه الأحوال غالبًا ما يكون القادم أسوأ. ذلك أن الانهيار يعمل في الزمن أيضًا. فالسقف الذي ما زال يحتمل العواصف ويقي سكان الغرف العارية من شرها، ليس مصممًا للصمود طويلًا من دون صيانة. وهي مسألة وقت قبل أن ينهار أو يصبح غير قابل لأداء وظيفته. والمدخول القليل الذي يحصله المرء من مزاولته بعض الأعمال غير المجدية، سيقل تباعًا، وسيقابله ارتفاع في الأسعار، وما يكفي لساعة أو ساعتين من اليوم، لن يكفي لدقائق بعد حين. لكن الأدهى من هذا كله، أن الجسم البشري هو الأحوج للرعاية والصيانة من السقف والطريق وبسطة الخضار. وواقع إهماله بسبب عدم القدرة على الذهاب إلى الطبيب أو تحمل كلفة شراء الأدوية النادرة الوجود، سيؤدي به إلى التعطل الجزئي أو الكامل بعد وقت ليس بطويل. النتيجة مرعبة: شعب من المرضى والمعوقين.
غالبًا ما يعمد المقتدرون حين تشيع مثل هذه الأحوال في بلد ما، إلى إخراج هذه المناطق بساكنيها وشاغليها وأبنيتها ومساحاتها من مداركهم. وقريبًا جدًا، ستتحول هذه المناطق إلى غيتوات، لا يجرؤ من يملك أي شيء على العبور فيها، أو زيارة سكانها حتى ولو كان الهدف إجراء مسح صحافي بهدف لفت نظر، من ما زال يملك ترف أن يقرأ أو يشاهد التلفاز، إلى أوضاع هؤلاء الصعبة.
لا شك أن السلطات السياسية والمالية اللبنانية، ارتكبت جريمة موصوفة بحق شعب كامل. وإذا كان ثمة احتمال لتحقيق العدالة ولو بعد حين، فيجب محاكمة هؤلاء جميعًا
الزمن يلعب لعبته. والزمن الراهن يلعب لعبة تنتج إهمالًا مضاعفًا. فمتصفح الموقع الإخباري، سيقرأ قصة عائلة يجور عليها الفقر والإهمال في بيروت، وسيحزن حكمًا، لكنه لن يلبث، بعد دقائق، أن ينتقل من قراءة هذا الخبر إلى متابعة المستجدات في أفغانستان، وانتخابات المغرب، وربما يحط رحاله، وغالبًا ما يحصل، قارئًا خبرًا عن رونالدو أو ميسي، حيث الهموم التي تشغل هؤلاء، تشبه هموم الحيونات الأليفة. هل ركض رونالدو اليوم أكثر من البارحة؟ في أي دقيقة سجل ميسي هدفه؟ والحصيلة، تكون حصة هؤلاء المعدمين من كل أمل، بضع دقائق من وقت المرء، يمرن فيها نفسه على التضامن. ثم يعود إلى سابق شؤونه.
اقرأ/ي أيضًا: جرائم لا يحاسب عليها القانون
لا شك أن السلطات السياسية والمالية اللبنانية، ارتكبت جريمة موصوفة بحق شعب كامل. وإذا كان ثمة احتمال لتحقيق العدالة ولو بعد حين، فيجب محاكمة هؤلاء جميعًا على كل ما جنته أيديهم وأموالهم وأسلحتهم. لكن معضلة اللبنانيين، وغيرهم كثير من شعوب المنطقة، تتفاقم أضعافًا مضاعفة بسبب الوفرة في الأخبار والتنوع الهائل فيها، وسهولة الوصول إليها. فأنت لن تستغرق أكثر من خمسة ثوان بالتمام والكمال، لكتابة جملة: البقية بحياتك، على صفحة أحد أصدقائك في فيسبوك، إثر إعلانه وفاة عزيز. وستنتقل بعدها مباشرة إلى إطلاق ضحكة مجلجلة لأن صديقا آخر نشر طرفة أو نكتة، أو تعليقا ساخرًا. لا وقت للحداد، ولا وقت للحزن. والأسوأ من هذا كله، لم يعد ثمة وقت للتضامن. فليمت المعدمون في الصمت. لدينا أمور متنوعة لا تحصى لنهتم بها، ونحن مشغولون بمتابعتها إلى حد الاختناق، فقط لنثبت لأنفسنا أننا ما زلنا نملك أملًا.
اقرأ/ي أيضًا: