ذكريات أيمن جابر متجذّرة في كل زاوية من قرية محيبيب الجنوبية، التي يصفها بـ"حبيبتي". يتحدث جابر، البالغ من العمر 45 عامًا، ويعمل كفني إلكترونيات، لوكالة "أسوشيتد برس"، عن حبيبته التي عرفها في صغره، وكيف كانا يلتقيان في الباحة القريبة من منزل عمه؛ "كنت أنتظرها هناك"، يتذكر جابر تلك الفترة بابتسامة على وجهه.
تتناقض هذه الذكرى الجميلة مع صور قريته الحالية. ففي 16 تشرين الأول/أكتوبر، سُوّيت القرية بالأرض إثر سلسلة من الانفجارات نفذها الجيش الإسرائيلي، الذي نشر فيديو يظهر تدمير القرية الواقعة في قضاء مرجعيون، محوّلًا عشرات المنازل إلى كومة من الحجارة.
تكررت هذه المشاهد في قرى عديدة جنوب لبنان منذ أن بدأت إسرائيل عدوانها الشامل على لبنان قبل أكثر من شهر، وأدت انفجارات هائلة في بلدة العديسة وحولها إلى تفعيل إنذار الزلازل في شمال فلسطين المحتلة، وتدّعي إسرائيل أنها تقوم بتدمير شبكة أنفاق ضخمة لحزب الله في المنطقة الحدودية، لكن بالنسبة للمهجّرين، فإن هذه الهجمات تدمر أيضًا ذكريات حياة كاملة.
تفجير قرية بأكملها هو شكل من أشكال العقاب الجماعي وجريمة حرب. ماذا يجنون من تدمير المزارات والكنائس والمنازل القديمة؟
يقيم جابر في عرمون، جنوب بيروت، قبل الحرب، بينما نزح بقية أفراد عائلته من القرية بعد اندلاع المعارك على طول الحدود قبل عام. ترك بعضهم ممتلكاتهم وراءهم ولجأوا إلى سوريا. وانتقل والد جابر وشقيقتاه زينب وفاطمة للعيش معه.
في غرفة المعيشة في منزلهم المؤقت، تحتسي الشقيقتان القهوة العربية بينما يدخن والدهما دون توقف. تقول زينب: "قلبي ينفطر لأجله. والدي يبلغ من العمر 70 عامًا، وهو ضعيف وقد انتظر لأكثر من عام للعودة إلى محيبيب. ترك خمس بقرات هناك، ولا يكف عن السؤال: 'هل تظنين أنها ما زالت على قيد الحياة؟'".
كانت محيبيب قرية ريفية مترابطة، تحتوي على نحو 70 منزلًا حجريًا تاريخيًا تصطف على جانبي شوارعها الضيقة. اعتادت العائلات زراعة التبغ والقمح والمولوخية والزيتون، ويزرعونها كل ربيع ويستيقظون قبل الفجر في الصيف لجني المحاصيل.
كانت القرية مشهورة أيضًا بوجود مزار قديم مخصص لبنيامين، ابن النبي يعقوب. تضرر المزار في حرب عام 2006، ثم تم ترميمه. تظهر الصور المزار محاطًا بقفص ذهبي مزخرف بنقوش عربية دقيقة بجوار مسجد حجري قديم تعلوه مئذنة تطل على القرية. المسجد والمزار الآن قد اختفيا.
نسف الاحتلال الإسرائيلي قرية محيبيب كاملة، وهي القرية التي تضم مقام النبي بنيامين بن يعقوب وعمره أكثر من 2100 عام. pic.twitter.com/pOgFvgkaaS
— layal h (ليال حداد)🇱🇧🇵🇸 (@layalhaddad) October 16, 2024
يقول هشام يونس، الذي يدير منظمة بيئية تُسمى "جنوبيون خضر"، لـ"أسوشيتد برس": "أجيال من الجنوبيين تقدر محيبيب بسبب منازلها الحجرية ذات الطابق الواحد أو الطابقين، وبعضها بناه جد جابر وأصدقاؤه"، ويضيف متسائلًا: "تفجير قرية بأكملها هو شكل من أشكال العقاب الجماعي وجريمة حرب. ماذا يجنون من تدمير المزارات والكنائس والمنازل القديمة؟".
بدوره، يتحدث رئيس بلدية ميس الجبل المجاورة، عبد المؤمن شقير، لـ"أسوشيتد برس" عن أن آخر العائلات التي كانت تقيم في محيبيب نزحت قبل بدء إسرائيل في تدمير القرية، كما فعل سكان القرى المحيطة.
كانت شقيقات جابر تدرسن في مدرسة بميس الجبل، وقد دُمرت تلك المدرسة أيضًا بعد سلسلة من الانفجارات الهائلة. بعد أن أكملت زينب دراستها في بيروت، عملت في صيدلية في قرية بليدا المجاورة. دُمّرت تلك الصيدلية أيضًا بعد أن فجّرت القوات الإسرائيلية جزءًا من تلك القرية. بل وقام الجيش الإسرائيلي بتجريف مقبرتهم التي دُفنت فيها أجيال من أفراد العائلة.
تتساءل زينب: "لا أنتمي لأي جماعة سياسية. لماذا كان يجب أن يُسلب مني منزلي وحياتي؟"، وتضيف قائلة: "عندما شغّل أخي مقطع الفيديو لتدمير القرية، لم أتحمل مشاهدته. هربت من الغرفة".
🎥 صحفيّ إسرائيليّ يفجر منزلاً في #لبنان ضمن تقريرٍ صحفي يقدمه للقناة الـ12 الإسرائيليّة. pic.twitter.com/IEm5pIsErY
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) October 29, 2024
لتجاوز ما يحدث، تقول فاطمة إنها تغمض عينيها وتعود بخيالها إلى مهيبيب. ترى غروب الشمس يرسم ألوانًا زاهية في السماء على تجمعات العائلة في الشرفة العلوية المحاطة بزهور والدتها.
استغرق بناء المنزل الذي توسعت فيه العائلة أكثر من عقد. تقول فاطمة: "استغرق الأمر منا 10 سنوات لنضيف غرفة واحدة فقط. أولًا، قام والدي بفرش الأرضية، ثم الجدران، السقف، والنوافذ الزجاجية. باعت أمي محاصيل منزلية لمدة عام لتأثيثه"، توقفت لوهلة وتابعت: "لكن اختفى كل شيء في لحظة".
يخشى جابر أن تُبقي إسرائيل مجددًا وجودًا في جنوب لبنان، مما لن يمكنه من إعادة بناء المنزل الذي شيده خلال السنوات الست الماضية. يقول بصوت خافت: "عندما تنتهي هذه الحرب، سنعود. سننصب خيامًا إذا اضطررنا، ونبقى حتى نعيد بناء منازلنا".