لم يحدث في التاريخ المعاصر أن أثارت أزمة الأسئلة التي أثارتها وراكمتها، على مدار عامٍ كامل تقريبًا، جائحة "كوفيد – 19" وتداعياتها. ولعل الملفت للانتباه أن هذا الكم من الأسئلة إنما هو، إن صح القول، حصيلة احتكاكها وتصادمها ببعضها البعض، الأمر الذي يجعلها، حتى بعد انحسار الجائحة وزوالها، في حالة تفاعل مستمر لاعتباراتٍ عديدة، في مقدمتها الفكرة القائلة بأنها ليست أسئلة مرحلة قائمة، بقدر ما هي أسئلة مراحل قادمة، مما يعني أنها ليست مرتبطة بالحاضر بقدر ارتباطها بالمستقبل.
ارتبطت تحولات المتحف بتحولات المدينة التي قامت ببنائه ليكون آلة انعكاسية لذاتها، وفضاءً يسرد قصصها عبر وسائل مختلفة
لا تبحث الأسئلة التي أثارتها الجائحة عن إجاباتٍ، بقدر ما تسعى إلى حث الفرد على إعادة النظر مليًا بما يحيط به، كخطوة أولية من خطوات استشراف مستقبل العالم، بمختلف قطاعاته، ما بعد "كوفيد – 19"، بما في ذلك القطاعات الثقافية التي عطلت الجائحة نشاطاتها، ودفعت القائمين عليها إلى البحث عن حلولٍ بديلة تمكنهم من إقامة نشاطاتهم في موعدها، بعيدًا عن التجمعات، ودون مخالفة إجراءات التباعد الاجتماعي. هكذا، لجأت متاحف مختلفة حول العالم إلى فتح أبوابها افتراضيًا، بحيث توفر للزائر فرصة التجول داخل أروقتها وقاعاتها والاطلاع على مقتنياتها من مكانه، دون الحاجة إلى مغادرة المنزل.
اقرأ/ي أيضًا: المؤتمر العالمي التاسع للسياسات العامة والإدارة.. رصانة أكاديمية وغنىً بحثي
فتحت هذه الخطوة التي تعد ربما سابقة تاريخية لم يشهد العالم مثيلًا لها، أبواب التساؤل حول مستقبل المتحف على مصراعيها: كيف سيكون شكله في المستقبل؟ وهل سيحافظ على وظائفه التقليدية؟ ماذا بشأن الأزمات وقدرته على تجاوزها؟ أو موقعه من التحولات العالمية والأنظمة الرقمية والفضاءات الافتراضية؟ وهل بُنيت المتاحف بشكلٍ يمكنها من احتواء هذه التحولات ومجاراتها؟ وغيرها من الأسئلة التي لا تعد جديدة كليًا، ولكنها باتت أكثر إلحاحًا في ظل تداعيات الجائحة.
وسط هذه التحولات الجذرية والتساؤلات الملحة التي شغلت عددًا كبيرًا من الباحثين والفنانين خلال هذا العام، عُقدت قبل يوم أمس، الاثنين 14 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، فعاليات النسخة الثالثة من مؤتمر الدراسات الفنية السنوية 2020 – 2021، الذي ينظمه كلٌ من معهد الدوحة للدراسات العليا، والمتحف العربي للفن الحديث.
حملت النسخة الثالثة من المؤتمر الذي عُقد عبر تقنية الاتصال المرئي، وبمشاركة عددٍ من الباحثين والفنانين والفاعلين في مجال الفنون من مختلف الجنسيات؛ عنوان "مستقبل المتاحف في مدينة المستقبل"، حيث ناقش المشاركون في سياقه عددًا من المسائل المتعلقة بمستقبل المتاحف في ظل التطورات الراهنة، وفي الوقت الذي يُعاد فيه النظر بعلاقة المدينة بالمتحف، بما أن الأخير رئة المدينة، وانعكاسًا لصورتها، عدا عن أنه حلقة وصل بين سكانها وحضارتها وتاريخها، مما يعني أن تحولاته مرتبطة بتحولاتها، الأمر الذي يجعل عملية استشراف ما سيكون عليه في مستقبلها، أمرًا مهمًا لاعتباراتٍ مختلفة.
الحديث عن أنظمةٍ جديدة للمتاحف أخذ منحىً مختلفًا بعد الجائحة، إذ تحول الحديث عنها من مجرد تصورات مستقبلية، إلى حاجة ملحة لا تحتمل التأخير، ولا تتعلق بالمستقبل بقدر علاقتها بالحاضر
والعلاقة بين المدينة والمتحف تبدو علاقة تكاملية، فالمدينة، وبحسب الفكرة التي انطلق منها المؤتمر، قامت ببناء المتحف لعدة أسباب متصلة بها بالدرجة الأولى، منها تشكيله آلية انعكاسية لذاتها، وتوفيره فضاءً قادرًا على سرد قصصها عبر وسائل مختلفة، بصرية ومعمارية وزمنية، الأمر الذي يمنح المتحف دورًا مهمًا وفاعلًا في إعادة تشكيل فضاء المدينة وزمنها، شرط أن يحمل صفاتٍ معينة، وأن يواكب التحولات المتلاحقة من حوله، ولعل أهمها التحولات التي فرضتها تداعيات تفشي وباء كوفيد – 19، إذ إن الأخير منح المدينة، وإن مؤقتًا، شكلًا جديدًا وغريبًا كان لزامًا على المتاحف مجاراته، وهو ما فعلته بعضها عبر اللجوء إلى الفضاء الافتراضي الذي أخرجها من صفتها المحلية، إلى أخرى عالمية غير محدودة، تتيح الوصول إليها دون الحاجة إلى زيارتها بالطريقة التقليدية.
اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي يطلق أعمال مؤتمر طلبة الدكتوراه العرب في الجامعات الغربية
تناولت الورشة الأولى من المؤتمر هذه العلاقة التي تظهر فيها المدينة متقدمة على المتحف، خصوصًا بعد الجائحة التي أشارت إلى أزمة تعيشها المتاحف منذ وقتٍ طويل، الأمر الذي يتطلب، بتعبير مجازي، إدخالها المستشفى بحسب ما ذكره الباحث الفلسطيني إسماعيل ناشف في مداخلته، حيث رأى أنها وصلت إلى حالة حرجة تستدعي التدخل الفوري، مشيرًا في كلامه إلى نوعٍ من العطب الكامن في جسد المتحف، يمكن معالجته من خلال بناء أنظمةٍ جديدة تأخذ بعين الاعتبار الفضاء الرقمي، وتعيد هيكلة المتاحف بحيث تكون آلة زمنية ومكانية في آنٍ معًا.
الحديث عن أنظمةٍ جديدة للمتاحف ليس جديدًا تمامًا، ولكنه أخذ منحىً مختلفًا بعد الجائحة التي شلّت المتاحف، بحيث تحول الحديث عنها من مجرد تصورات مستقبلية بعيدة، إلى حاجة ملحة لا تحتمل التأخير، ولا تتعلق بالمستقبل بقدر علاقتها بالحاضر.
في هذا السياق، يرى عبد الله كروم، مدير المتحف العربي للفن الحديث، أنه من الضروري على المتاحف إتقان التعامل مع العالم الرقمي وتحولاته، والاعتماد عليها كطريقة لاستجابة الفورية للأحداث والأزمات على اختلاف أشكالها، لا سيما أن العالم يعيش تغيرات متسارعة، الأمر الذي يفرض على المتحف، كما المدينة، مجاراتها واحتواؤها بحيث لا يكون متأخرًا زمنيًا، وهو ما يوفره الفضاء الرقمي الذي يُخرج مضمون المتحف إلى خارج جدرانه، ويجول به حول العالم، وربما يجعله أكثر رسوخًا بالذاكرة لعدة أسباب، لعل أهمها هو التعامل اليومي، وهذا ما يمنح المتحف أهم ما يحتاج إليه: الاستدامة.
علاقة المتحف بالذاكرة تناولتها نور أبو عرفة في مداخلتها، حيث رأت أنه من الضروري إقامة أشكال جديدة من التعاطي بينهما، تكون بالضرورة خارج جدران المتحف. وهنا تقترح الإذاعة بوصفها مستقبل المتاحف، وباعتبارها أداة حسية أخرى تتصل بالذاكرة بشكلٍ مباشر، وتتيح أيضًا محتويات المتحف إلى أكبر عددٍ من الأشخاص حول، وهو ما يلغي أي نوع من الاحتكار أو المركزية وحتى الانتقائية، ويتيح استقطاب الكثير من الأعمال الفنية بعيدًا عن الانتقائية.
الملفت في المداخلات التي قدمها المشاركون في المؤتمر هو الـ"لا محدودية" أو الـ"لا انتماء" التي يوفرها الفضاء الرقمي للمعارض، مما يؤهله ليكون مستقبلها، خصوصًا أنه يتيح قدرًا أكبر من الحرية مقارنةً بالشكل التقليدي للمتاحف.
ما يميز المؤتمر الذي تعقد ورشته الثانية خلال آذار/مارس القادم، هو الاختلاف في السيناريوهات التي طرحها المشاركون حول مستقبل المتاحف، وهذا الاختلاف، في حال أُخذ بعين الاعتبار، من شأنه أن يقود إلى سلسلة مؤتمرات أخرى مشابهة، يمكن أن تخرج في نهاية المطاف بوضع خريطة عمل متكاملة لمستقبل المتاحف، تقوم بالدرجة الأولى على تحويل المتحف إلى كائن حيّ قادر على مجاراة التحولات من حوله، والتعامل مع الأزمات عبر آليات استجابة فورية تضمن له الاستدامة.
اقرأ/ي أيضًا:
دعوة من دورية "استشراف" للمشاركة ضمن إصدار خاص بتحولات العلوم والتكنولوجيا
الدورة الأولى من "معرض العراق الدولي للكتاب".. تحية إلى مظفر النوّاب