"يبدو الفن بالنسبة لي حالةً روحيةً أكثر من أي شيء آخر"
* شاجال
سعادة لا توصف، تلك التي لا يمكن التعبير عنها إلا بالتحليق. لا بد وأنه كان سكرانًا بحب "بيلاّ"، فصور أحلامًا كهذه حيث لا حدود تقيد شكل انفعالاته، ولا جاذبية تمنعه وإياها مشاركة الآخرين طقوس الاحتفال. فرغم الفقر والصعوبات المحيطة أراد "مارك" أن يعبّر عن الحلم الذي كانوا يعيشونه سويًا.
يصور مارك شاجال عالمًا غير حقيقي، يتجاوز حدود الواقع ويصنع آخر مغايرًا
يظهر هذا في تصويره عالمًا غير حقيقي، يتجاوز حدود الواقع ويصنع آخر مغايرًا، له قوانينه الخاصة حيث يطير الناس حبًا وسعادة، غير مبالين بالقيود الأخلاقية الزائفة، والأفكار التي كانت تسود المجتمع في تلك الفترة. من أجل ذلك كان عليه ألا يتقيد بالأساليب الفنية السائدة، محاولًا التعبير عن حالهم بخطوط قوية وألوان كثيفة، وحركة غير منطقية، فاختار سماء بيضاء وثيابًا داكنة ليبرز تلك الحركة، وبدّل في العناصر والأشكال الطبيعية، لإيجاد تأثيرات انفعالية تنقل إلى مطالع لوحاته مشاعره وحالته الذهنية، وموسيقى الفرح بداخله.
ولد "مارك شاجال" في عام 1887 في قرية فيتبيسك، إحدى قرى روسيا البيضاء، التي سيكون لها فيما بعد تأثير كبير على أسلوبه ورؤيته الفنية. بدأ دراسة الفن التشكيلي في 1906 بمساعدة أحد فناني بلدته. من ثم انتقل إلى سانت بيطرسبورغ، وهناك التحق بأحد معاهد الفن التشكيلي الكبيرة.
كان على "مارك" مواجهة القوانين القيصرية الرجعية، والتي تحدد إقامة اليهود الروس، فلم يكن يسمح لهم بالعيش في سانت بيطرسبورغ إلا بتصريح مسبق، ولقاء ذلك تم سجنه لمدة قصيرة، لكنه استمر بعد خروجه في دراسة الفنون في المدينة. وكان يعود باستمرار لزيارة بلدته الصغيرة، حيث التقى هناك بشريكة حياته "بيلا روزينفيلد".
بعد أن ذاع صيته في روسيا، سافر إلى فرنسا واختلط بالمجتمع الفني المزدهر هناك لفترة، حتى قرر العودة في 1914 إلى فيتبيسك، ثم تزوج خطيبته "بيلا" بعدها بعام. مع اندلاع الحرب العالمية الأولى استقبل "مارك وبيلا" مولودهما الأول، فتاة جميلة أسموها "إيدا". بعد ذلك ومع انسحاب روسيا من الحرب، إثر إسقاط القيصر على يد الطبقة العاملة وصعود البلاشفة إلى السلطة في نهايات 1917، عيّن "مارك شاجال" من قبل السلطة الثورية "مفوض الشعب للفنون" في بلدته الصغيرة في روسيا البيضاء.
أنجز شاجال لوحة "الثورة الروسية" في 1937، وفيها يُظهر جميع الأطراف المتصارعة أثناء الثورة
كوّن "شاجال" في تلك الفترة مدرسته الفنية الحداثية "التعبيرية"، والتي لم تكن موافقة لاتجاهات البروباجاندا السوفيتية في ذلك الوقت، مما جعله يفضل الرحيل إلى فرنسا إلى الأبد، وهناك حصل على التقدير وبدأ فعلًا مسيرته الفنية. لكن أيام "فيتبيسك" و"بيلا" التي ماتت في 1944 ظلت تحيا بداخله، وأثرت عليه فيما بعد مع انتقاله إلى "السريالية التعبيرية".
لوحة "الثورة الروسية" أنجزها "شاجال" في 1937، وفيها يُظهر جميع الأطراف المتصارعة أثناء الثورة، حتى التي بدت وكأنها خارج الصراع، كأناس الحياة اليومية العاديين من أبناء الطبقة المتوسطة. يظهرون أسفل "يمين" اللوحة ممددين وهم يمارسون حياتهم اليومية. كذلك الفلاح العجوز بعصاهُ أسفل اللوحة، والحمار الجالس على الكرسي وحيوانات القرية الأخرى، وعلم روسيا البيضاء التي ظلت فيما بعد رموزًا تظهرُ في لوحاته السريالية تعبيرًا عن بلدة فيتسبيك وحياة الناس البسطاء الهادئة.
حشود ثوار الطبقة العاملة تأتي من "يسار" اللوحة. بالنسبة للمُطالع، تظهرُ في حركة أجسادهم المندفعة إلى الأمام، وأيديهم التي تحمل السلاح والأعلام الحمراء، الطاقة الثورية الهائلة التي جعلت التغيير أمرًا ممكنًا، حتى أنك تكاد تسمع صيحاتهم تأتي من خلف المتاريس. بينما يجلس القيصر مسندًا يده على خده في حالة حيرة واستسلام تام. الملفت هنا وضع لينين في اللوحة كقائد للثورة، نجد أن "مارك" وضعه في منتصف اللوحة تمامًا، واقفًا على يد واحدة فوق طاولة القيصر، يشير بيده "اليسرى"، موجهًا الحشود، لا في اتجاه الآلة (الساقية الدائرية الكبيرة) وعازفي الموسيقى، بل تجاه أبناء الطبقة المتوسطة التي وإن بدت غير متدخلة في الصراع، إلا أنها كانت تنحاز وتؤيد القيصر ونظامه الرجعي. ومن الممكن القول إن وقوف لينين بهذه الطريقة تعبيرٌ عن تكنيك الهروب والظهور المتكرر -والدعاية طويلة النفس التي كان يمارسها طوال شهور الثورة- الذي فرضه عليه النظام بالتضييق الأمني ومحاولات الاعتقال المتكررة.
بالعودة إلى مرحلة "مارك شاجال" الأولى المبهرة والطيران فرحًا مع بيلا فوق فيتسبيك. ورغم قصر هذه الفترة (1914-1917) إلا أن قدرات "شاجال" الفنان التشكيلي الشاب، ظهرت في ذاتيته المفرطة بتعبيره عن سعادته و"بيلا" بوجودهما معًا في هذه الفترة، رغم الظروف الحياتية والاجتماعية المحيطة الصعبة. وسوف نعود ونتطرق في سلسلة مقالاتنا عن هذا التشكيلي الحداثي المبدع إلى المراحل الأخرى التي تلت "مرحلته التعبيرية" و"السريالية التعبيرية"، كذلك سنستعرض محاولاته "التكعيبية"، وتوجهه مع تقدم سنه للعمل في أعمال فنية رائعة تخص "ديكور المسرح وتصميم ملابس الممثلين"، حتى ننتهي "بنوافذه الزجاجية الزرقاء" التي كانت خير خاتمة لمسيرته الفنية كأحد أبرز فناني القرن العشرين.
ظهرت قدرات "شاجال" في ذاتيته المفرطة بتعبيره عن سعادته بحبيبته "بيلا"
كغيره من فناني الحركة التعبيرة والرسم من الخيال، كان "مارك" رافضًا لمبدأ المحاكاة الأرسطية، كما كان متجاوزًا لأفكار التأثيريين. فلم يكن الفن بالنسبة إليه نقلًا مباشرًا للطبيعة والأحداث الواقعية، ولا دراسة تأثير الضوء على الأجسام وتغير الألوان الناتج عن ذلك، فإبداعه كأحد أهم فناني الحداثة كان متوجهًا بقوة نحو التعبير عن الإنسان، والرسم من الخيال.
كان جزءًا من تلك الحركة الفنية الجريئة التي تخطت المناهج الأكاديمية، وأسّست لشكل فني جديد، عبّر به بالصورة البصرية إلى ما بعد الرؤية الفنية التقليدية للطبيعة، فالمنظور والتشريح والظل والإضاءة، بمعانيها التقليدية، والاهتمام بالسمة الديناميكية للواقع والإحساس بالتغيير والحركة، تلك القيود التي تحد من قدرة الفنان على التعبير وتقيد انطلاقه لم تكن في نطاق مشروعه ومدرسته الفنية التي كان من أهم روادها. لم يكن تمثيل الطبيعة بالنسبة للحركة التعبيرية إلا مجرد وسيلة للتعبير عن الانفعالات والأحاسيس الذاتية المتأثرة بهذا الواقع المحيط، بغرض خلق واقع خيالي مغاير.
رسم "مارك شاجال" لوحة "عيد الميلاد" عام 1915، قبل زواجه من "بيلا" ببضعة أسابيع، وبعد احتفالهم سويًا بعيد ميلادها. وهذه اللوحة تعبير رائع عن حالة الحب التي عاشاها، والمشاعر الصادقة المتدفقة التي كان يكنها لها. في مشهد يشبه الأحلام يطفو "مارك" فوقها، ويلوي عنقه في حركة غير واقعية، بينما تقف هي على أطراف أصابعها، حاملة في يدها باقة زهور، مقتربة منه كي يقبلها، وكأنها تهم بالتحليق.