يصحو الإنسان لينتظر موته. هذه هي أبرز العادات اليومية في زمن الحرب. إنها تمامًا كما يختصرها محمود درويش بعد تجربة حرب وحصار سابقَين: "ما زلتُ حيًّا.. ألف شكرٍ للمصادفة السّعيدة".
يقف الإنسان قريبًا من موته مدركًا أنّ المسافة ما بينهما آخذةٌ بالتقلص بدلًا التوسّع، ولشدة توقّع حدوثه في كلّ لحظة لا يعود مفاجئًا، ولا مرعبًا، كما هو أمره في زمن السلام.
لم يكن هذا الإنسان كذلك من قبل، إذ لطالما هابَ الموت حاله في ذلك حال جميع الكائنات. لكنه لم يعد يبالي بحياته منذ صار يربطها بمعانٍ مستجدة لم يكن يفكر بها بهذا التطرف من قبل. حياته ضرورية لأجل الذين يحبهم، ولو أن في الموت ما يستحق قلقًا وذعرًا فلن يكون ذلك إلا حين يصيب من يُحبّ!
ومن أقسى المفاجآت أن تغدو تلك المخاوف شديد الإيلام، وبدرجة لا يمكن للمخيلة في أسوأ درجات سوداويتها أن تتصورها، فالجثة المتفحمة لأحد أفراد العائلة في مدن الخيام، ليلة المجزرة، سوف تسكن في ذاكرة من كان هذا الميت يخشى من أن يموتوا قبله، لأنها أقسى ما يمكن أن يحدث لكائن يُحسّ ويُفكر.
ما الذي أفعله بحياتي إن لم تكن لأجل صغاري؟ يقول أبٌ. تُردّد العبارة، مع تنويعات بسيطة عليها، ألفُ أمٍّ على مدار الوقت. والذي يحدث أنّ الصغار يموتون، ويعيش أولئك الآباء أو الأمهات لأجل تجريب انفجارات القهر في نفوسهم.
غير بعيد عن مسرح الجريمة، تقوم مرشحة للرئاسة وسفيرة سابقة في الأمم المتحدة بالكتابة على قذيفةٍ "اقضوا عليهم"، ويصرخ عضو في الكونغرس: "لا يوجد أطفال أبرياء في قطاع غزة"
بدايةَ الحرب، مع انقطاع الماء تحقيقًا لوعد الشرير الأحمق غالانت الذي قال إن غزة ستكون بلا ماء ولا كهرباء، قالت سيدة لابنتها التي اتصلت من بلاد بعيدة كي تطمئن عليها: "أحبوا الماء. لا يوجد ما هو ألذ منه".
السيدة سعيدة للغاية، ولا عجب إذ حصلت أخيرًا على كأس من الماء العذب بعد أربعة أيام من تجرعها مياه البحر المالحة.
كتبت الابنة متأثرةً بفرحة أمّها كلامًا جميلًا، وأدركت أن الحياة التي نبالغ في مطالبنا فيها لن نستطيع الوصول إلى جوهرها ما لم ندرك أنه ما من شيء أكثر أهمية من كأس ماء!
انقطع الطعام. بدأ الجوع يستولي على المكان حتى استطاع تحويل الحياة في بعض المناطق إلى مجاعة، أُجبر فيها الناس خلالها على مشاركة الحيوانات أعلافها، وبعد نفادها أُرغموا على الاقتيات من عشب البرية.
أما الحيوانات فراحت تأكل الجثث المتراكمة. قططٌ وكلابٌ جائعة هي الأخرى ولم تجد سوى من انتهت بهم المصائر بين ركام المنازل، أو في الطرق وهم يحاولون النجاة.
فتاةٌ صغيرة امتلأت رعبًا مما رأتْ وسمعتْ في عالمها البسيط عمّا يحدث للموتى، فقالت لقطتها: "حين أموت لا تأكليني".
عادت صور الأجساد الذائبة، والملامح المتلاشية، والأجساد التي يبدو بارزًا هيكلها العظمي. ولطالما ظننا مخطئين أنها اختفت بعد مجاعات الصومال والعراق. عالم يديره لئام مثل الذين نعيش في مدار استبدادهم يُصرّ على أن يعيد إلينا هذه المأساة من باب توسيعه لوسائل العقاب.
وعلى خلفية هذا المشهد الدموي، خلال وقت ليس بالقصير أبدًا، تراكمت حصيلة فظائع ليس من الأفعال وحسب، بل من الأقوال التي تدعو لإبادة شعب غزة، تشاركها المجتمع الإسرائيلي ابتداء من كبار السياسيين، مرورًا بسياسيي الصفوف الثانية والثالثة.. والعاشرة، ورجال الدين والإعلاميين والمواطنين اللاهين على شاشات موبايلاتهم، وصولًا إلى الجنود في ساحات الوغى. من قائل بأعلى صوته وبأوضح ما في نيّته: "فلنضربهم بقنبلةٍ نووية"، إلى من يذهب لإيجاد روابط خيالية بين الإسلام والنازية تُبرر مسح القطاع من الوجود، إلى تعبير وزيرة المساواة عن فخرها بتدمير غزة.
ولا ننسى التعريج، ولو بشكل عابر، على أولئك الجنود الذين لم يكتفوا بالفتك بالمكان تفجيرًا في بثوثٍ مباشرة، وقتل وحرق البشر بمختلف أنواع الأسلحة، وانتهاك الأسرى المدنيين وجرهم عراةً كالعبيد إلى سجون مجهولة، بل راحوا ينتهكون الخزائن الشخصية ويعرضون ما يجمعونه من ملابس داخلية لنساء غزة في هوس استشراقيّ بورنوغرافي، فيه الكثير من التحسر على إخفاقهم في تكرير تجربة داعش الرائدة في تأسيس سوق نخاسة معاصر.
في "تيك توك" المراهقين والراشدين على السواء، يتشابك القتل والحقد في نسيجٍ تختصره عبارة تتنقل بين أفواههم وتلوكها الألسن ترديدًا وتكرارًا: "يجب أن يموتوا".
وغير بعيد عن مسرح الجريمة، تُرسم دائرة قهر أكبر بأيدي قوى من مختلف جهات العالم، من مرشحة للرئاسة وسفيرة سابقة في الأمم المتحدة توقّع على قذيفةٍ "اقضوا عليهم"، إلى عضو في الكونغرس يصرح: "لا يوجد أطفال أبرياء في قطاع غزة"، إلى رئيس يبحث عن وقت إضافي في السلطة مع أنه لا يضمن وقته في الحياة نفسها، ولهذا تراه يتصرف في موت غزة وأهلها ضمن حسابات انتخابية فقط.
هذا هو المشهد الآن. هذا هو عالمنا القاسي الذي لا مفرّ لنا من أن نعيش فيه. كل شيء واضح، وكل الأشياء فيه تُقدم نفسها ليس على أنها لا تُنسى أو لا يمكن أن تُنسى وحسب، بل على أنها جردة حساب لا بد من تصفيتها مع الذين يديرون العالم وحياة البشر ضمن ما يتوافق مع رفاهيتهم وراحتهم، ولهذا ليس لنا سوى أن نقاوم.