ساهم اهتمام الخليفة أبو جعفر المنصور بالعلم والعلماء في إرساء كيان الدولة العباسية وكان إنشاء مكتبة بيت الحكمة في عهد الخليفة هارون الرشيد سببًا في جعل الدولة محطًا لأهل العلم من كافة أنحاء العالم العربية والغربية، وانطلاقًا من هذا المبدأ في إرساء نظم العلم في الدولة قامت واحدة من أعرق حضارات الدول على مر الأزمنة، وإذا ما تمعنا جيدًا في تاريخ هذه الدولة سنجد أن ركيزتها الأساسية في التقدم اعتمدت على تبني العلماء وتسهيل رحلاتهم في طلب العلم تحت كنف الوالي، لذا، استطاعت أن تغرز في التاريخ وتدًا استظلت تحت خيمته الكثير من العلوم اللاحقة. ولما كان للعلم دور كبير في تقدم الأمم وبناء حضارتها ونمائها، فقد اهتم المعنيون بالأمر بتطويره وتطوير أساليب وطرائق الوصول إليه على مر السنوات وصولًا إلى يومنا الحالي، لذا ابتدعت العديد من النظريات التي تُعنى به وشكلت لنفسها مبحثًا خاصًا تحت مسمى " نظريات التعلم"، فما هي نظريات التعلم؟ وما هو مفهومها؟ وما هو وجه المقارنة بينها؟
تعرف نظريات التعلم بأنها مجموعة من الأفكار التي تُعنى بالتعلم والطرق التي يتم من خلالها التعلم
نظريات التعلم..والمقارنة بينها
تتعدد نظريات التعلم منذ نشأتها، وكل منها اختصت بجانب وركزت عليه أكثر من غيره، وفيما يأتي ذكر لنشأة نظريات التعلم وتوضيح لكل منها
نشأة نظريات التعلم في البدء كانت الفلسفة
منذ بدايات القرن العشرين تبنت المدرسة السلوكية (إحدى المدارس الفلسفية) نظريات التعلم والاهتمام بكل ما يخصها، رغم أن العديد من الأقوال ترجح ظهور نظريات مشابهة لها تم الاهتمام بها وتطويرها ما قبل السلوكية.
وقد ساهم علم النفس التربوي في دراسة وتنقيح نظريات التعلم بما يتعلق بمفهومها وارتباطها بالنمو الفكري للإنسان ويعتبر فهمها وتطبيقها من أسباب نجاح سير العملية التعليمية، وهو من أهم ما يجب على المعلم والمؤسسات المعنية الاهتمام به.
المقارنة بين نظريات التعلم
تعرف نظريات التعلم بأنها مجموعة من الأفكار التي تُعنى بالتعلم والطرق التي يتم من خلالها التعلم، وهي تقدم أطرًا وأساليب متنوعة تتطلب من المعلم فهمها واستيعابها للحصول على أفضل النتائج مع طلابه، وعلى الرغم من الفروقات الواضحة والتي سيتم ذكرها في المقال بين نظريات التعلم عامة إلا أنها جميعها تشترك بأمر واحد وهو ضرورة فهم خط سير العملية التعليمية لتقديم الأفضل. وهناك العديد من نظريات التعلم التي تم وضعها من قبل العديد من علماء النفس التربوي، وهي مجموعة جمعها بعض العلماء بـ3-5 نظريات فيما أشار البعض إلى تجاوزها حد الـ31 نظرية، في أحد أهم الكتب التي تناولت نظريات التعلم وهو كتاب نظريات التعلم وتطبيقاتها التربوية للأساتذة:
- الدكتور كفاح يحيى صالح العسكري
- الدكتور محمد سعود صغير الشملي
- الدكتور علي محمد العبيدي
تم ذكر 16 نظرية هي:
- نظرية الاشراط الكلاسيكي لـ بافلوف
- نظرية المحاولة والخطأ لثورندايك
- نظرية سكنر
- نظرية التعلم الإشاري لـ تومان
- نظرية جثري الاشتراطية الاقترانية
- نظرية الحافز لـ كلارك هل
- نظرية جون دولارد و نيل ميللر
- النظرية البنائية لـ بياجيه
- نظرية النمو المعرفي لـ برونر
- نظرية جانييه
- نظرية ديفيد أوزبول
- نظرية الجشطالت (التكوين)
- نظرية المجال لـ ميرت ليفين
- نظرية التعلم الاجتماعي لـ جوليان روتر
- نظرية التعلم بالملاحظة لـ باندورا
- نظرية التحكم الذاتي لـ نوربرت فينر
في هذا المقال سيتم شرح أهم 5 نظريات متعارف عليها في أوساط علم النفس التربوي
-
النظرية البنائية
والتي من رحمها ولد مصطلح التعلم النشط، والنظرية البنائية مفادها أن جميع ما يتحصل عليه الطالب من معارف وعلوم هي نتيجة اختبارات وتجارب شخصية، فالعقل البشري عبارة عن بناء متكامل يرتفع كلما زادت الخبرات والاحتكاكات الخارجية مع المحيط، وهو حصيلة اختبارات المصاعب والتصدي للمشكلات بحلها، لذا على كان على المعلم إشراك الطالب في العملية التعليمية ليكون فاعلًا فيها وليس متلقيًا فقط، وبهذا فالطالب يغدو قادرًا في المستقبل بعدما حققه من تجارب على الاختيار الأفضل.
يعود أساس النظرية البنائية لـ بياجيه، وهو أحد العلماء البيولوجيين والفلاسفة التربويين المتأثرين بفلسفة "كانت"، والذي يرى أنه لا يمكن للعقل البشري أن يكون صفحة بيضاء، وإنما هو كما ذكرنا عبارة عن بناء متكامل من الخبرات والتجارب.
-
النظرية السلوكية
تشير النظرية السلوكية إلى تفاعل الطالب وتأثره مع العالم المحيط به في تحصيل المعرفة والمعلومات، بشكل خاص التعزيز الإيجابي أو السلبي، فهي تشير إلى إمكانية تعليم الطلاب من خلال المكافآت أو العقاب.
يعود أصل هذه النظرية للقرن التاسع عشر على أن أساسها كان في العام 1913م على يد واطسون مؤسس المدرسة السلوكية في علم النفس التربوي، إلا أنها تطورت بشكل ملحوظ بعد المساهمات التي أبداها سكينر، حيث اعتبر أن الطفل في البيداغوجيا الكلاسيكية (علم التربية) كان يتعلم لينجو من العقاب، مع غياب كل أشكال الدعم، ومن هنا ينشأ الفرق بين السلوكية والإنسانية التي تعتقد أن الأفعال الجيدة عادة أصيلة لدى الطلاب إذا ما توفرت لهم سبل الدعم الكاملة.
-
النظرية الإنسانية
تم تطوير نظرية التعلم الإنساني على يد أبراهام ماسلو، وكارل روجرز، وجيمس إف تي بوجنتال في أوائل القرن العشرين، وتنص هذه النظرية على أن الطالب هو المرجع في كيفية تعلمه، ويجب تلبية جميع احتياجاته حتى يتعلم بشكل جيد.
وعلى خلاف أصحاب النظرية السلوكية في التعليم والتي تشير إلى أن الأفعال الجيدة من الطلاب محكومة في الغالب بالمكافأة أو العقاب، يعتقد أصحاب نظرية التعلم الإنساني أن الطلاب جيدون بفطرتهم ويخرجون أفضل ما لديهم في حال تلبية جميع احتياجاتهم، وسواء اختلفنا أو اتفقنا مع هذه النظرية إلا أنه من الجدير بالذكر على كل الأحوال ضرورة تلبية الحد المعقول من احتياجات الطالب ليصل إلى المستوى المتطلع إليه في التعليم.
-
النظرية المعرفية
تهدف النظرية المعرفية إلى إشراك المتعلمين في العملية التعليمية من خلال ربط المعلومات السابقة باللاحقة والبناء عليها والتعامل معها، كما تعطي أهمية كبيرة لمصدر المعلومات والمعرفة، وتتبع استراتيجية متتالية في الزمن وهي:
- الانتباه الانتقائي للمعلومات.
- التفسير الانتقائي للمعلومات.
- إعادة صياغة المعلومات، وبناء معرفة جديدة.
- الاحتفاظ بالمعلومات أو المعرفة المحصلة بالذاكرة.
- استرجاع المعلومات عند الحاجة إليها.
-
النظرية الترابطية
تعتبر النظرية الترابطية التي صاغها إدوارد ثورندايك في الربع الأول من القرن العشرين أحد أهم النظريات في التعلم، وهي تعبر عن دراسة العمليات العقلية البشرية والإدراكية بشكل ترابطي ومتصل حيث يقوم عقل الطالب بربط المعلومات واسترجاعها أثناء عملية تعلمه، وهي تعتمد كثيرًا على إشراك الطالب في العملية التعليمية والاعتماد عليه في التحليل والبناء.
من المهم مراعاة الإمكانيات المتوفرة والظروف المحيطة بالمعلم والطالب لإطلاق هذه النظريات من حيز الخيال إلى واقعية التطبيق
نظريات التعلم..بين النظرية والتطبيق
لا شك أنه من المهم جدًا مراعاة التطور في الأساليب المتبعة في سبيل تطوير التعليم، إلا أنه من المهم كذلك مراعاة الإمكانيات المتوفرة والظروف المحيطة بالمعلم والطالب لتطبيق هذه الأساليب وإطلاق هذه النظريات من حيز الخيال إلى واقعية التطبيق.
في كل نظريات التعلم السابقة في اختلافاتها وفروقاتها تسعى بشكل حثيث لتحقيق النهضة العلمية المرجوة، ولنجعل منها ذلك النور المنبعث في نهاية النفق المظلم، علينا أن نحث الخطى أولًا للخروج من هذا النفق، يكون هذا بإيمان المعلم بأهميته وأهمية كونه مربيًا يحمل على عاتقه أجيالًا تعاني من فراغ محبط، يكون كذلك بإيمان ذوي الطلبة بأهمية رفد أبنائهم بكل ما يمكن لتحقيق غاية الحصول على التعليم الجيد وتربية الأطفال على الابتكار والإبداع، وبوعي الطلبة كذلك بأهميتهم وأهمية تنمية أدمغتهم وريّ عطشها بالعلم واكتساب المعارف، وبتبني المؤسسات التعليمية والتربوية المعنية تطوير أساليب البحث العلمي والمعرفي في المدارس والجامعات على حد سواء.
إن خروج نظريات التعليم السابقة إلى حيز التطبيق يستلزم من كل من سبقت الإشارة إليهم إدراك أهمية دورهم واليقين بأن نجاح كل ما سبق مرهون بإدراكهم لواجباتهم تجاهه.