الشعور بالانتماء من أفعال الحياة. يربطك بالمكان كبعد من أبعاد الوجود، وجودك، وقسمةً من قسماتك. وهو تاريخك المجسم، المحكي منه والمغمور، وحقيقتك المبعثرة في كل مكان. وهو ساحة تواجدك اليومي بين الناس، وتراثك القديم فيه، وإرثك في الأرض وجذورك الضاربة في عمقها. لذا فإن حكاية المكان وعمارته، هي جزء من حكايتك.
خلال الفترة ما بين 2007 و2014 هدم 36 مبنى أثري في الإسكندرية، وحتى 2018 وصلت أعداد الأبنية الأثرية المهدمة إلى 43
يُعرف الجهاز القومي المصري للتنسيق الحضاري، المبنى الأثري على أنه "أي مبنى أو منشأة تتميز بقيمة تاريخية أو رمزية أو معمارية فنية، أوعمرانية، أو اجتماعية". ثم يُصنف المباني التراثية بما تتسم به، مثل: "القبول المجتمعي، والتفاعل الإيجابي من المحيط الاجتماعي، أو أن تكون معبرة عن ظاهرة فكرية أو اجتماعية أو مادية أو معنوية في حقبة زمينة معنية"، وأخيرًا الصمود والاستمرارية، أي أن حالتها تسمح بالتعامل معها.
اقرأ/ي أيضًا: الإسكندرية "مدينة الرب".. في سوق نخاسة رأس المال
وكانت الإسكندرية من أوائل المدن المصرية التي حظيت بملجد سُجّلت فيه المباني التراثية. ويضم هذا المجلد حوالي 1153 مبنًا تاريخيًا تراثيًا.
إلا أن عددًا من هذه المباني هُدّمت، واستبدلت بأبنية تجارية أو خدمية على نمط الأبراج المرتفعة. ولعب انعدام المراقبة والمحاسبة على المحليات التي يتفشى فيها الفساد، دورًا مهمًا في هذه الحوادث. لكن في المقابل، ثمة جهود من مواطنين للحفاظ على الأبنية التراثية أمام جرافات الهدم.
قانون حماية المبنى الأثري.. هو قانون تخريبه!
شهدت مدينة الإسكندرية "مذبحة" للأبنية الأثرية، فخلال الفترة ما بين 2007 و2014، هُدم 36 مبنى، وإلى 2018 وصل عدد المباني الأثرية المهدمة إلى 43، ما يعني أن عمليات إزالة وهدم المباني الأثرية تتضاعف.
وكان عدد المباني الأثرية في الإسكندرية 1153 مبنى، بينها 1109 مبنى ذات طراز معماري مميز، و10 مبانٍ مرتبطة بشخصية تاريخية، وثمانية تمثل مزارات سياحية، وستة مرتبطة بالتاريخ القومي للمدينة، ومبنيان يمثلان حقبة تاريخية.
ومن المباني الأثرية التي تعرضت للهدم، فيلا عبود باشا التراثية. وعبود باشا هو من كبار رجال الصناعة في الفترة الملكية. ويرجع تاريخ بناء فيلته إلى عام 1912. كما هدمت في 2015 فيلا شيكوريل، الثري اليهودي ذي الأصول الإيطالية. ويرجع بناء فيلته إلى عام 1930.
هناك أيضًا فيلا جوستاف أجيون بمنطقة وابور المياه بوسط الإسكندرية، والتي تعرضت للإزالة في 2016. ومن آخر المباني التي تم هدمها، فكانت فيلا لورانس داريل المعروفة باسم "فيلا أمبرون"، والتي صدر قرار بهدمها في أيلول/سبتمبر 2018. وصاحب الفيلا، لورانس داريل، هو روائي بريطاني اشتهر برباعيته الأدبية عن مدينة الإسكندرية. هنالك كذلك مبنى عمارة راقودة في منطقة الشاطبي، والتي أزيلت في كانون الأول/ديسمبر 2017.
أما العوار القانوني الذي يتم استغلاله محليًا لتمرير قرارات الإزالة للمباني الأثرية، فيتمثل في القانون رقم 144 لسنة 2006، التي يستغلها أصحاب المصالح من أجل العمل على خروج المبنى الأثرية من مجلد المباني الأثرية، وخاصة في مادته الثانية، وهي المادة التي تختص بحصر المباني الأثرية وتسجيلها في قوائم وسجلات تتضمن كافة المعلومات و البيانات الخاصة بها.
ولكن كيف يحدث ذلك؟
التقى "ألترا صوت" بأسامة محرم، وهو أحد أعضاء فريق "Love Alexandria"، المعني بتوثيق المباني الأثرية في الإسكندرية. وبسؤاله عن كيفية التلاعب القانوني لتمرير قرارات الإزالة بحق المباني الأثرية، أجاب: "مبدئيًا لا توجد خطة حقيقية لحماية المباني الأثرية أو المناطق الأثرية بشكل عام"، موضحًا أن "التلاعب يتم من خلال تغيير في مواصفات المبنى، فيصبح الأثر وفقًا لذلك غير مطابق قانونيًا للمواصفات المبنى التي تم رصدها وتسجيلها في المجلد".
في حالات أخرى يحدث أن ورثة المبنى الأثري، تغريهم أموال المقاولين للتخلي عن الأثر لهم. وقد صورت مثل هذه الحالات دراميًا في مسلسل "الراية البيضاء"، إنتاج 1988، والذي يتحدث عن الصراع على ملكية إحدى الابنية الأثرية بين مالكه الارستقراطي، وسيدة أعمال حديثة الثراء.
جهود التوثيق وتطويع الصورة لخدمة الهدف
وأمام جملة التعديات هذه على المباني الأثرية، تواجد فريق love Alexandria بجهده الرصدي والتوثيقي، للمباني الأثرية، وللتعديات عليها. كما عمل الفريق على إعادة تصحيح المعلومات الخاصة بالمباني الاثرية والعمرانية ذات الطراز المميزة في الإسكندرية، وتقديم ذلك للمسؤولين المعنيين، ليكون توثيقًا مُحدثًا، يسد الطريق أمام المتلاعبين بمواصفات الأثريات.
وتواصل الفريق كذلك مع أحفاد بناة الإسكندرية الحديثة، والمؤسسات والجمعيات التي أقاموها، لمساعدتهم في جهودهم التوثيقية، فتواصل مه حفيدة دانتامارو كارتيجينا المهندس الإيطالي الذي ساعد في تخطيط ورصف كورنيش الأسكندرية، ومع أحفاد جوزيبو بوتي الذي أنشأ أول جمعية أثرية في المدينة، وهو الذي وضع لبنات متحف الإسكندرية في موقعه الحالي، وشارك في افتتاحه مع الخديو عباس حلمي الثاني عام 1895، وغيرهم.
يقول اسامة محرم، إنهم بجهدهم التوثيقي، واتصالاتهم بأحفاد بناء الإسكندرية الحديثة، سيخرجون بفيلم توثيقي عن الإسكندرية الأثرية.
أجرى "ألترا صوت" مقابلة مصورة مع أسامة محرم، سرد فيها قصة مبادرة "أحب الإسكندرية" أو "love Alexandria"، المبادرة التي خرجت إلى النور في عام 2013، وحاول من خلالها مجموعة من الفنانين الشباب أن يقدموا الإسكندرية بشكل مختلف، بالصوت والصورة واللون، بعد أن رصدوها جيدًا، ووثقوها.
حوّل الفريق ثقل التاريخ الإسكندراني إلى صورة يستطيع أي أحدٍ أن يتعاطى معها. صوروا المباني المختفية، أو المهدمة. صوروها في اماكنها!
ومن جهة الشارع، فقد كان متعاونًا معهم، فأقبل الناس على دعمهم، خاصة كبار السن الذين استحضروا ما يعرفونه أو سمعوه من معلومات عن الأماكن. كما دعمهم الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
أقام الفريق معرضًا مصورًا في الجيزويت بالإسكندرية. زاره "ألترا صوت"، والتقط الصور من هناك. وقد علمنا أن المعرض مدد نظرًا للإقبال الكبير عليه.
واستكمالًا للمقابلة المصورة مع أسامة محرم التي تحدث فيها عن المبادرة ودورها، سرد لنا قصة أحد أهم ميادين الإسكندرية، وهو ميدان المنشية، الذي كان يعرف فيما مضى بميدان القناصل، لأن محمد علي باشا أحاطه بمقار القنصليات الأجنبية.
ثمة ما يشير إلى أن الإسكندرية لم تكشف عن كل أسرارها بعد وأنها محيط حميمي في بعض زواياه التي لا تزال تراود سكانها عن محتبهم كل يوم
كما سرد لنا قصص شخصيات جاءت من دول أوروبية مختلفة لبناء الإسكندرية. وتعرض كذلك للمباني التي تمت إزالتها، والمباني القديمة الصامدة لليوم على حالتها.
يعبر فريق "love Alexandria" عن حالة حب حقيقية للمكان.. للمدينة، سواءً القديمة التي تغيرت ملامحها، أو الحديثة التي تتعرض للتجريف بشكل مستمر، وللتشويه. لكن ثمة ما يشير إلى أن مدينة الإسكندرية لم تكشف عن كل أسرارها بعد، وأنها محيط حميمي في بعض أركانه وزواياه التي لا تزال تراود سكانها عن محتبهم كل يوم.
اقرأ/ي أيضًا:
"آخرها اغتصاب كبائن ستانلي".. هكذا يدمر البزنس المشبوه بحر الإسكندرية
الطريق إلى كوم الناضورة.. فنار الحكايات والأساطير في الإسكندرية