أيام قليلة انقضت على اعتداءات باريس الأخيرة لكنها شكلت فترة كافية لامتلاء الفضاء الإعلامي في فرنسا بالتحليلات والخوض في الأسباب علها تشكل مدخلًا لتجنب هكذا اعتداءات تبدو محتملة في المستقبل القريب. وإذا كان سؤال المواطن الأمريكي "لماذا يكرهوننا؟"، الذي طرأ بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر قد تراجع لصالح أسئلة جديدة وأكثر جدية -بفعل تخطي الواقع لسذاجة السؤال الأمريكي- بقيت محاولات الإجابة قاصرة إن لم نقل متواطئة، حدها الأقصى إشباع الفضول لا البحث في الجذور.
فجأة أصبح الجميع في فرنسا يعرف أن هناك 255 آية في القرآن تحض على العنف والكراهية!
تبقى المشاركة في النقاش الجاري دون الدوران في حلقاته المفرغة مهمة صعبة لكنها واجبة. من الملاحظ أن المنطق الذي حكم تحليل خلفيات مرتكبي هجمات باريس البربرية مبني على ثلاث عناوين رئيسية: العنوان الأول هو المهاجرون العرب، سواء المقيمون منذ زمن أو القادمون حديثًا بوصفهم البيئة المنتجة للإرهابيين. العنوان الثاني هو الإسلام، فجأة أصبح الجميع يعرف أن هناك مائتين وخمس وخمسين آية في القرآن تحض على العنف والكراهية، وبالتالي يصبح العنف الدموي ترجمة حرفية لتعاليم الإسلام. أما العنوان الثالث الذي تداوله الاشتراكيون والخضر فهو البيئة الاقتصادية- الاجتماعية التي خرج ويخرج منها الجهاديون، مع الإضاءة على مشاكل البطالة ونوعية التعليم، وسوء الخدمات في الأحياء الشعبية مما يحولها إلى بؤر مناسبة للاستقطاب والتجنيد "الجهادي".
في هذا السياق تشكّل الدراسة التي أنجزتها مؤسسة "بوزار"، في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، حول بيئة الجهاديين وآليات تجنيدهم المرجع الأدق لمناقشة هذه العناوين الثلاثة. تشير الإحصائية الى أن 10% من الجهاديين الفرنسيين ينحدرون من أجداد غير فرنسيين، وتتوزع أصولهم على بلدان المغرب العربي، آسيا وبعض الدول الأوروبية، وبالتالي هذه المعلومة تسقط حصرية وسم المهاجرين العرب بشبهة الإرهاب.
رقم آخر مثير تورده الدراسة وهو أن 20% من عائلات الجهاديين مؤمنة، ويتوزع إيمانها على الديانات السماوية الثلاث، بالإضافة إلى البوذية أو غيرها، أما الـ 80٪ الباقية فعائلاتهم ملحدة، إذًا لم يتوجب على مجتمع المسلمين فقط إعلان إدانتهم وإظهار تضامنهم بعد كل حدث إرهابي تقوم به مجموعة تشكلت من أصول مختلفة؟
أما على مستوى البيئة الاقتصادية- الاجتماعية فإن 67٪ من الجهاديين ينتمون إلى الطبقات الوسطى، و17٪ إلى الطبقات الغنية، مما يبقي 16٪ فقط لأبناء الطبقات الشعبية، وبالتالي يصبح الربط الميكانيكي بين البؤس الطبقي والإرهاب فرضية لا تشكل خمس الحقيقة. بالنتيجة فإن العوامل العرقية أو الطبقية أو الدينية تبقى عاجزة عن الإحاطة بكل جوانب ظاهرة الجهاديين الفرنسيين، أو حتى تفسير مسيرة شخص مثل فابيان كلان ابن مدينة تولوز القادم من جزيرة الريونيون لعائلة يهودية، اعتنق الإسلام في العام 2000 وانتهى به المطاف ليصبح صوت داعش في فرنسا، بعد أحداث باريس الأخيرة.
في العام 1882 أعلن فريدريك نيتشه "موت الله ذلك لأننا نحن البشر قد قتلناه"، اليوم باستطاعتنا أن نعلن موت العالم لأن النظام العالمي قد قتل الإنسان. لقد أنتج النظام العالمي هويات مجروحة، مثخنة بالذل والمرارة بفعل تاريخ كبير من العبودية والهزائم والاستعمار. اليوم ندرك أن هذه الهويات المجروحة، الهائمة والناقصة، وجدت ضالتها لدى داعش وأصبحت تمتلك وجوهًا هي ذات الوجوه التي نشاهدها على الشاشات تنتقم من الوجود كله بالموت الذي تنشره في أربع جهات الأرض.
اقرأ/ي أيضًا: