مع بداية ظهور أزمة فيروس كورونا، أطلقت النجمة الثرية ياسمين صبري تصريحًا مثيرًا للجدل بعد أن سُئلت عن مدى حرصها على تطبيق إجراءات السلامة لتجنب الفيروس مجبيةً بأنها لا تلقي بالًا للأمر وتستمر في حياتها الطبيعية كالمعتاد وأن "البقاء للأقوى" في النهاية.
تدور أحداث مسلسل "لعبة الحبار" في كوريا الجنوبية، حيث يجمع الفقر والنبذ مجموعة الأشخاص ضمن ألعاب تحددها لهم جهة مجهولة من الأثرياء
كان الفيروس حينها حديث العهد يختلف الكثيرون حول حقيقة وجوده آنذاك، لكن لم يختلف كثيرون على أخذ موقف مناهض وأحيانًا موقف عدائي من تصريح النجمة زوجة الملياردير الذي كان سيهرع بها إلى أفضل مستشفيات العالم في طائرتها الخاصة لو أصيبت بمكروه. ربما أثار حفيظة الناس أن يصدر هذا التصريح عن نجمة ثرية تقع تحت تصنيف "الأقوياء"، بينما لو صدر التصريح ذاته عن شخصية عادية لما ألقى له أحد بالًا ولا حظي بأي اهتمام.
اقرأ/ي أيضًا: 7 حقائق غريبة عن مسلسل "سكويد غيم" الكوري
لا يبتعد مسلسل "سكويد غيم" (Squid Game) أو "لعبة الحبار"، في فكرته الأساسية عن تصريح ياسمين صبري المثير للجدل ولا عن ردود الأفعال عليه، وهي فكرة لا تبدو في ظاهرها جديدة على السينما وأعمال الدراما. ولكن ما دام المسلسل في فكرته الأساسية مكررًا فما الذي جعله يسجل رقمًا قياسيًا في عدد مشاهداته حول العالم؟ ما الجديد فيه؟ وما الذي جعل المشاهد يصر على إكماله رغم تكرار فكرته ورغم كثرة مشاهده الدموية وضعف حبكته في أكثر من موقع؟
لابد أن نستذكر في سياق مناقشة هذا المسلسل كيف يفرق الفيلسوف فريدريك نيتشه بين "أخلاق السادة" و"أخلاق العبيد" رابطًا الأولى بالشجاعة والصحة والقوة الجسدية والثانية بالجبن والضعف والانهزام والمرض والخنوع. فالسيد قوي بالضرورة، قادر على الوصول لأهدافه وطموحاته بفعل شجاعته وإصراره وقوته. أما العبد فيجد في الخنوع الحل الأسلم، وفي قلب المسميات طريقة للتأقلم والمضي في حياته، فحين يعجز عن الثأر يسمي ذلك تسامحًا، وحين يعجز عن الرد يسمي ذلك حُلْمًا، وحين يعجز عن مواجهة الأذى يسمي ذلك صبرًا، وحين يعجز عن جمع المال يسمي ذلك قناعة وزهدًا. وأظن أن مسلسل "سكويد غيم" يقوم على أساس هذه الفكرة. أي أن سيدًا واحدًا سيصل في النهاية بفضل قوته ليكسب اللعبة والجائزة معًا.
قصة مسلسل "سكويد غيم"
تدور قصة مسلسل "سكويد غيم" في كوريا الجنوبية حيث يجمع الفقر والبؤس والنبذ ما يقارب أربعمئة وخمسين شخصًا في مجموعة من الألعاب تحددها لهم وتشرف على مجرياتها جهة مجهولة من أثرياء العالم. الألعاب بسيطة جدًا، فهي ألعاب طفولية تقليدية، لكن عواقب الإخفاق في اللعبة الواحدة وخيمة، فالخروج من اللعبة يعني دخول النعش ثم المحرقة. في البداية يتم اختيار اللاعبين بناء على مدى تورطهم في ديون وقروض يستحيل عليهم سدادها أولًا، ثم بناء على مدى تقبلهم للصفع على وجوههم مقابل الحصول على مبلغ مالي جيد. يبدأ المسلسل بشخصيات عادية ربما يصادف كل واحد منا المئات منها يوميًا، لكن تطور الأحداث يغير تلك الشخصيات الآدمية بشكل دراماتيكي لتصبح مخلوقات أنانية ومرعبة أقرب للوحوش منها إلى البشر.
يبدأ مسلسل "سكويد غيم" بشخصيات عادية لكن تطور الأحداث يغيرها لتصبح مخلوقات أنانية ومرعبة أقرب للوحوش منها إلى البشر
يحمل اللاعبون أرقامًا ولا ذكر لأسماء غالبيتهم. تبدو أسماؤهم شيئًا هامشيًا جدًا، لا حاجة ولا أهمية لها. يكفي أن نعرف مدى نبذ مجتمعاتهم لهم ومدى قلة حيلتهم وفقرهم وعجزهم عن عيش حياة كريمة لنتقبل فكرة كونهم مجرد أرقام بلا هوية، تمامًا كما نتقبل معرفة ما نتج عن هجوم إرهابي أو تفجير قذيفة في حرب ما بالأرقام لا الأسماء. حتى الجيش الأحمر بأقنعته الغريبة هم بشر ليسوا بلا أسماء فحسب، بل أيضًا بلا وجوه أو ملامح، فأقنعتهم تحولهم لما يشبه الرجال الآليين ينفذون أوامر القتل والحرق دون أن نرى مدى تقبلهم لذلك من خلال ملامح وجوههم، مما يجعل الأمر مخيفًا لحد كبير، فخيال الإنسان يميل دائما إلى المبالغة وتوقع ما هو سلبي، فلا أحد منا يتوقع أن يرى أي ملامح سمحه أو بريئة تحت قناع شخص يقتل بدم بارد. لكن الصدمة تكون حين تُنزع بعض الأقنعة خلال الأحداث ويظهر تحتها وجه بشري عادي يشبهنا.
اقرأ/ي أيضًا: رسميًا.. "سكويد غيم" المسلسل الأعلى مشاهدة على الإطلاق من نتفليكس
يقدم العمل مجموعة من التناقضات المرعبة التي لا بد لنا من الوقوف عندها؛ فالمرور إلى الألعاب يحدث من خلال ممرات ودهاليز بألوان زاهية بهيجة، والتابوت الذي يحمل جثث الخاسرين يبدو كغلاف هدية بشريط وردي. أما الألعاب فتمتزج فيها براءة وذكريات الطفولة بشيطنة النضج، حيث يحل المنطق دائمًا محل الوجدان. وموت رفيق اللعب لا يعني الفقد والحسرة، بل يعني المزيد من المال في الحصّالة الضخمة والمزيد من المساحة في مهجع اللاعبين. والصوت الأنثوي اللطيف يعرض قوانين الألعاب وينقل أخبار الإقصاء بحماس وفرح وكأنه منفصلٌ تمامًا عن التراجيديا والرعب الحاصل خلال ذلك. والجهة المصممة والمسؤولة عن تنفيذ الألعاب تصر على تطبيق قواعد الديمقراطية والمساواة بين لاعبين مصيرهم الحتمي هو الموت.
مع التقدم بالأحداث وتجاوز أول لعبتين يبدأ اللاعبون بالانقسام والتجمع كتحالفات؛ ففريق تميزه القوة البدنية والبلطجة وفريق يميزه الذكاء والتعاطف بين أعضائه. وسينجح المتابع بالتأكيد في تخمين انتصار الفريق الثاني وانهيار الأول، فخدعه ذكية واحدة كفيلة بزرع الشك وتلاشي الثقة بين ذوي العضلات. ذات التحالفات نراها أيضًا بين أفراد الجيش الأحمر والذي تمارس فيه عصابة صغيرة سرقة أعضاء بعض اللاعبين الميتين دون علم الجهة المنظمة، وكأنهم بذلك يمثلون فساد السلطة وميل البشر الدائم إلى الاحتيال والطمع مهما كانت ظروفهم والقوانين التي تحكم عملهم صارمة.
وبالحديث عن السلطة وفسادها، سندرك حجم حاجة البشر لسلطة تحكم شؤونهم وتضبط سلوكهم، حتى وإن كانت تلك السلطة في باطنها فاسدة. فما أن تترك الأمور لوجدان اللاعبين حتى يبدأوا بقتل بعضهم البعض طمعًا بالمال واختصارًا لزمن الألعاب وعدد اللاعبين. ولا يمكن أن ترى المشهد الدموي الذي ينقض فيه اللاعبون على بعضهم البعض كالوحوش الكاسرة دون أن تدرك معنى وعمق مقولة سارتر: "الجحيم هو الآخرون".
ولأن الجميع يناقش تطور شخصية البطل سيونغ جي هون في مراجعاتهم للمسلسل، سأناقش هنا في هذه المراجعة الشخصية على الجانب الآخر، والتي تمثل الخصم أو جانب الشر تشو سانغ وو، وهي شخصية تطورت خلال المسلسل بطريقة ملفتة ومقنعة. فـ "سانغ وو" ليس بالشخصية النذلة أو الشريرة في أصلها، فهو إنسان مجتهد وعبقري كما يصفه صديق الطفولة والبطل مرارًا وتكرارًا، لكنه تعثر ماديًا بسبب دخوله في استثمارات مستقبلية فاشلة. وهو شخص هادئ يمد يد العون حين يقدر على المساعدة؛ فيعطي المهاجر علي أجرة الحافلة حين يعلم بأنه مفلس، ويتقاسم معه الطعام حين يضطرا للسهر على حماية فريقهما. وهو ينقذ حياة صديق طفولته في اللعبة الأولى ويحثه على الاستمرار كي لا يلقى مصير الخاسرين، ويعيش حالة من الشعور بالذنب بسبب رهن منزل ودكان والدته، ثم ينتحر في النهاية ويوصي بمساعدتها مقابل ذلك. تتطور الشخصية الهادئة لتصبح أكثر خبثًا وأنانية مع تقدم أحداث المسلسل، ولكن في لعبة أنت إما أن تكون القاتل فيها أو المقتول، لا بد لنا كمشاهدين من استيعاب هذا التطور وفهمه والاقتناع به، بل والتعاطف معه.
مع "سكويد غيم" ندرك حجم حاجة البشر لسلطة تحكم شؤونهم وتضبط سلوكهم، حتى وإن كانت تلك السلطة في باطنها فاسدة
لعل شخصية الباكستاني الأسمر علي من الشخصيات التي لا نستطيع تجاهلها؛ فهي شخصية المهاجر الذي يعمل في مصنع ويفقد أصابعه خلال ذلك، ثم يتسول أجره وتعويضه ويلجأ إلى العنف مع مديره للحصول على حقه بعد أن طفح الكيل وشعر بالظلم. وهو شخصية تُكرر عبارات الشكر والامتنان على الدوام للمواطنين الأصليين (الكوريين) ولا يتأخر عن إنقاذ سيونغ جي هون في اللعبة الأولى، ويتصرف دائمًا وكأنه مدينٌ لهم. ثم مقابل كل هذا يتعرض للتحقير حين يطلق نكته فترد عليه هان مي نيو بأن على المهاجر الاستمرار بالعمل، وتسأل بتهكم إن كان المهاجرون خلال عملهم يجدون وقتًا للمزاح؛ فحياة المهاجر أشبه بالاستعباد وكأنه الحلقة الأضعف دائمًا أينما ذهب. والمؤلم حقًا تقبله لكل هذا مقابل الهروب من جحيم موطنه. ولأنه المهاجر الطيب، ستنطلي عليه الحيلة وينقلب فوزه إلى خسارة بسبب سذاجته، ثم يكون ثمن ذلك حياته. ولعل علي هو الشخصية الأطيب في المسلسل والذي لن يختلف مشاهدان على الشعور بالأسى تجاه قصته.
اقرأ/ي أيضًا: كوريا الشمالية: "سكويد غيم" يعكس وحشيّة المجتمع الرأسمالي في كوريا الجنوبية
ولأن المرأة حاضرة بقوة في هذا العمل، لا يمكن لأية مراجعة منصفة تجاهل الحديث عنها. فهي اللاعب الأضعف بنيةً ترفضها وتنبذها الفرق حين يبدأ البحث عن القوة. وهي الفريسة الأسهل حين يتحول المهجع لحلبة يتقاتل فيها اللاعبون دون قوانين أو ضوابط لتقليل عدد اللاعبين والتخلص من الفئة الأضعف بين صفوفهم. مع ذلك استطاعت الصمود إلى النهاية إما بفضل ثقتها بنفسها وشراستها كانغ ساي بيوك، أو بفضل مكرها وذكائها هان مي نيو، أو بفضل دعم رجال أقوياء لوجودها. ولأن الحديث عن المرأة يعني الحديث عن الحب، يذكرنا المسلسل بحاجة الإنسان إلى الحب والاحتواء حتى في أصعب الظروف؛ فاللاعب الذي يحمل الرقم "96" سيواصل حماية زوجته وستواصل هي احتواءه حتى تخسر بعد أن واجهته كخصم لا كحبيب، لكنه لن يستوعب فكرة فراقها، فينتحر في اليوم التالي. أما دوك سو فيدفع ثمن اللعب بقلب هان مي نيو وخداعها بعد أن تقرر قتله والانتحار معه بطريقة رومانسية فريدة.
يبدو صراع الخير والشر في مسلسل "سكويد غيم" صراعًا معقدًا. فمن وجهة نظر المنظمين للألعاب هم يحرصون على تطبيق مبادئ العدل والمساواة، ويقدمون فرصة "ذهبية" لواحد من اللاعبين ليصبح إنسانًا محترمًا يبدأ حياته من جديد بلا ديون أو قيود، بغض النظر عن قتل أربعمائة شخص آخرين لا يكترث لوجودهم وحياتهم سوى أشخاص يطمعون ببيع أعضائهم مقابل ديونهم. وفي الحقيقة لم يُجبر أحد من اللاعبين على خوض المغامرة، بل جميعهم انضموا واستمروا بملء إرادتهم وحريتهم. يراهن الفقير على الحصان بينما يراهن الغني على الفقير. يراهن الفقير ليكسب المال والجائزة بينما يراهن الغني ليمنح الجائزة والمال والفرصة لفقير ما.
هكذا يضعنا المسلسل في المنطقة الرمادية لنعيد التفكير في المنظومة الأخلاقية التي تحكمنا كمجتمعات بشرية. ينتهي المسلسل في جزئه الأول نهاية مطمئنة بانتصار الخير ويقظة الضمير، وهذا هو واجب السينما والدراما الأسمى؛ أن تحيي فينا الأمل والإيمان وتعيدنا دائمًا إلى دائرة الخير والضمير.
يضعنا مسلسل لعبة الحبار في المنطقة الرمادية لنعيد التفكير في المنظومة الأخلاقية التي تحكمنا كمجتمعات بشرية
اقرأ/ي أيضًا: "سكويد غيم".. شهرة المسلسل وراء الإقبال على تعلّم اللغة الكورية حول العالم
العمل جيد في مجمله، ولكن هذا لا يعني عدم الاعتراض على ما فيه من مشاهد دموية مرعبة ومفرطة. والحقيقة أن هوس المراهقين بالمسلسل وموسيقاه وأزيائه أمر يخيفني على الصعيد الشخصي؛ فأنا أفضل أن تتأثر هذه الفئة بمسلسلات أكثر تعاطفًا وأقل دموية. ولكن وبكل تأكيد أحب أن يتبادر لأذهانهم -بعد مشاهدة عمل كهذا- السؤال: ماذا لو تضامن وتعاون اللاعبون وشكلّوا فريقًا واحدًا؛ القوي والذكي وصاحب الخبرة (كعامل مصنع الزجاج)؟! ماذا لو تعاون البشر جميعًا بعيدًا عن الأنانية والطمع والصراع الدموي ليصنعوا لأنفسهم غدًا أفضل؟
اقرأ/ي أيضًا:
"مناورة الملكة" يحقق مشاهدات قياسية وينعش الاهتمام العالمي بلعبة "الملوك"