بدأت السينما بالصدفة، أو لنقل بدأت القصة في السينما دونَ أن يكون ذلك هو القصد من "السينماتوغراف"، لقد كان هذا الوسيط البصري مع نهاية القرن التاسع عشر مجرد وسيلة إلهاء وترفيه، ولم ينتبه الإنسان إلى قدرته عن التعبير عبره إلا بعد ذلك بعقود، عندما أدرك صناع الأفلام الأوائل بأن لهذا الاختراع قدرة أكبر من مجرد التصوير والعرض، له قدرة على الإيصال والإفهام، على بعث الأفكار من مراقد عقول أصحابها إلى مباحث عقول الآخرين، عندها فقط تحولت السينما من عملية ميكانيكية إلى عملية فنية، من التوصيف إلى التركيب، ومن النقل إلى العقل.
تحوّلت السينما من أداة براغماتية تخدم أهداف التوثيق والترفيه إلى معنى فني وفكري
ثم تطورت الحكاية السينمائية في العقود التالية للحرب العالمية الأولى، لتصبح جزءًا من التأريخ وحفظ الذكريات الإنسانية، وبدأت في التوسع خارج نطاق السرد الكرونولوجي البسيط لما يفعله الإنسان، إلى البحث داخل ذلك الإنسان ومحاولة استخراج القصة من النفس، لا من القلم، أي أن السينما في عصرها الأول، الأبيض والأسود ومع فجر ما نسميه اليوم "الكلاسيكية" كانت قد تحولت من أداة براغماتية تخدم أهداف التوثيق والترفيه، إلى معنى فني وفكري يطرح ويجيب على الأسئلة الوجودية للإنسان، ومكنت قدرة السينما العالية على الخروج من "صندوق التقليد" صناعَ الأفلام الأوائل (ملييس، جريفيث، شابلين، كيتون وغيرهم)، من التفرغ لمعالجة ما يعانيه الإنسان من أسئلة تؤرق عقله، وكانَ لكل منهم مقاربته وطريقته في إيصال تلك الأسئلة إلى العقول المشدودةِ أمام الشاشة الكبيرة.
اقرأ/ي أيضًا: "The Crown".. ملحمة تلفزيونية تكشف أسرار العائلة الملكية
ظل ذلك التطور يتدرج صاعدًا حتى قدم لنا مع نهاية القرن العشرين، خلاصة ثمانين سنةً من الاجتهاد الفني في مواءمة الوسيط البصري مع الحبكة النصية، قدم لنا تراثًا عالميًا من الأعمال التي تستفز عقولنا وتأخذنا إلى رحلاتٍ عميقة داخلنا، قدمت السينما في القرن العشرين وما مضى من هذا القرنِ إجابات كثيرة، نراها ونسمعها ونحسها، على تلك الأسئلة التي بقيت لقرون طويلة حبيسة الكتب والصحائف. وفي اعتقادي، فقد بلغ ذلك التطور "السينما-فكري" أوجه مع مسلسل HBO البديع: Westworld، ومن المهم أن أشير هنا إلى أن السينما التي أعنيها هي كل صناعة فنية لمنتج بصري يحكي قصة خيالية، أي أنه حتى المسلسات التي تنتج وتبث حصرًا عبر التلفزيون، هي في النهاية سينما، لأنها تستخدم أدوات السينما ولأنها تحكي قصصها بناءً على قواعد التركيب والكتابة والتصوير التي طورتها السينما ومخرجوها ومنتجوها عبر عقود من الإبداع والاختراع. ومن المهم أيضًا أن أشير إلى أن الإجابات التي أعنيها ليست من قبيل أن 2 هي نتاج جمع 1 و 1، بل هي من نوع الإجابات التي لا تفعل سوى استفزاز أسئلة جديدة، أي إجابات الفلسفة على أسئلة العقل.
ظلت الفلسفة دائمًا أبعد مجالات العلوم الإنسانية عن المناقشات العامة، وكانت دائمًا بتقسيماتها الثلاثة الأساسية (الميتافزيقا، الأبستمولوجيا ونظرية القيم) بعيدة عن متناول السينمائيين، وذلك لسبب بسيط جدًا: الحوار. إن الفلسفة تقوم على الحوار، وإن أقل ما يجب أن يظهر على الشاشة ليكون العمل سينمائيًا خالصًا، هو الحوار. ولعل الفكرة التي يرددها كتاب السيناريو كثيرًا هي: Show, don’t tell تختزل ما أعنيه هنا: إن أفضل ما يمكن لصانع الفيلم أن يفعله هو أن يوصل فكرته إلى المشاهد بأقل جهد كلامي ممكن، أي بأقل نسبة حوار ممكنة في الفيلم أو الفيلم التفلزيوني أو المسلسل، طبعًا هناك أكثر من استثناء عظيم في تاريخ السينما لهذا المنهج. 12 Angry Men مثلًا، فيلم كلاسيكي من أجمل ما يكون، ويقوم بشكل شبه كامل على الحوار، لكن على العموم، فإن محاولة كتاب السيناريو والمخرجين تجنب الحوار والنصوص الطويلة في أفلامهم، هي نابعة من رغبة المشاهد في أن يُشاهد لا أن يقال له، في أن يرى لا أن يسمع، وهذا بالنسبة لي سبب رئيس في قلة إنتاج أفلام ومسلسلات ذات طابع فلسفي خالص، وهو أيضًا السبب في زيادة تقديرنا واهتمامنا بتلك الأعمال الدرامية القليلة التي تنجح في معالجة أسئلة الفلسفة، إننا نقدر كثيرًا الفيلم عندما يمكننا أن نصفه بأنه فلسفي، أي أنه استطاع بطريقة ما أن يمزج الحوار بالصورة، دون أن نشعر بالملل.
أهم ما صنعه "وستوورلد" هو ربطه لنظرية القيم في شقها الأخلاقي بحياتنا اليومية
هذه المقاربة الحذرة بين تقديم الصورة وتأخير النص، بين الحرص على "السينمائية" وتجنب الكلام، بين الفعل والقول، بين التصوير والكتابة، هي التي استطاع مسلسل Westworld أن يتجاوزها ويتعالى عليها، ويثبت في حلقاته العشر الماضية قدرة السينما على احتضان الفلسفة وإيصال أسئلتها إلى الجميع، والبحث عن إجاباتٍ على تلك الأسئلة، واستئناف ما توقف نقاشه منها من طرفِ عامة الناس. إن أهم شيء صنعه "وستوورلد" هو ربطه لنظرية القيم في شقها الأخلاقي، أي في سؤالها عن الخير والشر والصواب والخطأ، بحياتنا اليومية، التي نسرع فيها عن الانتباه لأهمية هذه الأسئلة.
اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "المملكة الأخيرة".. المصير هو كل شيء
يبحث مسلسل "Westworld" عبر موسمه الأول، في سؤال الأخلاق بطريقة لا تخلو من جمال، أي لا تخلو من جسر رابط بين شِقي نظرية القيم، فهو يرينا كيف يمكن للإنسان أن يصارع ذاته دون حتى أن يدرك بأنه كيان مستقل عن الآخر، الآخر الذي يلازمه، أو الآخر الذي لا يعلم حتى بوجوده، ذاك الذي من المفترض أنه خلقه. يبحث مسلسل "Westworld" في سؤال الكوجيتو الديكارتي، والأخلاق في نقاشها الفلسفي، من سقراط إلى سبينوزا، في إدراك الذات والوعي بها، في تحقق الإدراك عبر الوصول إلى عمق متاهة النفس، إلى التفكير، إلى الشك، عبر الاستماع أخيرا إلى صوت تلك الذات المحاصرة بأحلامها وآمالها وطموحاتها الغريبة، المتشابكة. ويبحث مسلسل "Westworld" في سؤال الخلق وحرية الاختيار عبر نفيِ الصواب والخطأ مع غياب تلك الحرية، ويبحث أيضًا عن معنى أن نكون إذا لم يكن في وجودنا معنى لنا، إذا كنا مجرد سجناء في أحلام غيرنا، إذا كنا مجرد دائِرين في حلقات مفرغة من النوم والاستيقاظ، لا تقربنا من اكتشافِ هوياتِنا ولا تبعدنا عن خدمة الغائب الذي لا ندركه.
في خيوط مسلسل "Westworld" المتشابكة يمكننا رؤية قوة النص والحوار والكلام، وتأثيرها على وعي المشاهد بالأحداث، فالمسلسل يعتمد أساسًا على القدرة السردية لممثليه (فورد، برنارد، دولوريس، ويليام..)، وليس هذا غريبًا على التلفزيون، فهو وسيط خطابي بالأساس، لكنه هنا يأخذ طابعًا سينمائيًا بحيث تكون الحكاية والسرد مبنيين على حاجة الصورة، الصورة التي تعبر عن نفسها كثيرًا، والتي تتركنا حائرين أكثر من مرة في معنى لقطة ما، أو مشهد، أو تفصيل صغير جدا، بين خطي زمن متوازيين، متطابقين، بين ماضٍ وحاضر ومستقبل يبدو أنه يكونُ أكثر تعقيدا وصعوبة في التعامل مع الأسئلة التي بدأ بها المسلسل.
استطاع مسلسل "Westworld" عبر قصته الجميلة العميقة، وعبر كتابة غنية من جوناثان نولان، ليزا جوي، و ج. ج. آبرامز، وعبر أداء تمثيلي إبداعي من أنتوني هوبكينز، إيفان ريتشل وود، إد هاريس، ثاندي نيوتن، جيمس ماردسن، وجفري رايت، أن يخلق "عالمًا غربيًا" غريبًا فعلًا، غائصًا إلى أبعد ما يمكن الوصول إليه في التنقيب عن معاني الوجود الإنساني المعقد. استطاع مسلسل "Westworld" أن يكون التمثل الأكمل لعلاقة الفن بالفلسفة.
مسلسل Westworld هو قمة تطور الفعل السينمائي، من البساطة السردية إلى الوعي الفلسفي بالفكرة والعبرة والقصة، إنه سابق على عصره بذروة فهمه للأسئلة الكبرى، وقدرته على تصويرها بنقاء سينمائي بليغ.
اقرأ/ي أيضًا: