ثمانون يومًا مضت على حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة خلّفت أكثر من عشرين ألف شهيد غالبيتهم من الأطفال، وأكثر من خمسين ألف مصاب، إضافةً إلى تدمير عشرات الآلاف من المباني السكنية على رؤوس ساكنيها، وتهجير ما يزيد عن 1.8 مليون فلسطيني وحصارهم وتجويعهم على مرأى ومشهد من العالم أجمع. ثمانون يومًا ولم تحرك قيادات العالم المتواطئة ساكنًا لإيقاف المجزرة التي تُبث على الهواء مباشرةً، وعلى مدار الساعة.
ثمانون يومًا مضت والاحتلال الصهيوأمريكي يسحق المدنيين في غزة، والعالم يصيح دون أن يسمع حيًا، فلا حياة لمن تنادي. وعلى الرغم من ذلك، يستمر زخم النضال في الداخل والخارج، مع أن البعض ممن هم خارج غزة بدأوا يألفون المشهد الدموي، وآخرون بدأت هممهم بالفتور.
تعمل هذه المعارك على كسر الوحدة، وإضعاف الجهود، وتقويض التصميم الجماعي المطلوب لإيقاف الإبادة الجماعية المستمرة، وتصرف الانتباه عن المعركة الرئيسية
إلا أن الأسوأ هم من بدأوا باختلاق معارك ثانوية هامشية لا يُفهم الغرض منها سوى حرف البوصلة وتشتيت الجهود عن الهدف الرئيسي الحالي، المتمثل بإيقاف العدوان وفك الحصار وإنقاذ ما تبقى من غزة وأهلها.
ففي الفترة الأخيرة، بدأنا نلحظ اندلاع المعارك الثانوية بين الناس خارج فلسطين، ضمن صراعات عبثية حوَّلت الانتباه، ولو جزئيًا، عن الحاجة الملحة إلى وقف الإبادة الجماعية المستمرة وآثارها المدمرة. فتارة تقوم الدنيا ولا تقعد لأن فتاة من غزة تعيش تحت القصف لأشهر انتقدت مستوى أو طبيعة مساعدة ما! فانبرى الذباب الإلكتروني للدفاع عن "شرف الأمة" مهاجمًا الفتاة بكل ما أوتي من قوة؛ الذباب النائم الذي لم يُسمعنا صوته طوال شهرين من المذبحة، استيقظ ليهاجم فتاة فلسطينية تحت الحصار والقصف!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث ثارت حمية بعض من الطرف الآخر، وبدلًا من تجاهل الذباب والمغرضين بدأ بالحشد لمهاجتهم، متناسيًا ضرورة استمرار الضغط على العدو الصهيوأمريكي، وعدم الانجرار وراء تفاهات الذباب الإلكتروني.
وفي ساحةٍ أخرى، نختلف مع شاب من غزة حول آرائه وما يَنشُر، فيصبح الهم الأوحد للبعض تخوينه وإظهار عمالته! حتى يصل بهم الحال للهتاف ضده في المظاهرات، ولا أعمم هنا ولكن هنالك فئة فعليًا هذا ديدنها. فبدلًا من تركيز الجهود وتسخير المنابر لإيقاف الإبادة وتحميل العدو الصهيوأمريكي وحلفائه المسؤولية عن جرائمهم ورفع كلفة العدوان عليهم وإيقاف المجزرة وفك الحصار، يصبح همهم تخوين فلان وتجريد علان من مصداقيته، وكأن خلافاتنا السياسية أو حتى الأيديولوجية لا يمكن أن تتأجل قليلاً لما بعد إيقاف المذبحة.
ويتناسى الكثيرون أننا لسنا في موقع مساءلة أو محاسبة الضحايا تحت القصف والتجويع والتشريد، وأنه ليس من حق المُستَلقين على آرائكهم المزاودة على المرابطين من وراء الشاشات.
ناهيك عن الصراعات بين الضحايا من مختلف البلدان حول من عانى أكثر، ومن قُتِل من شعبه أكثر، والدخول في منافسات المعاناة غير المفهومة، التي تنتهي دائمًا بالتقليل من معاناة الآخر وتشتيت الجهود وحرف البوصلة.
معارك دونكيشوتية كثيرة بدأت تندلع على وسائل التواصل الاجتماعي، بل وتمتد حتى للإعلام التقليدي، لا تخدم سوى العدو وأدواته بتخفيف الضغط عليهم. ويحضرني هنا مثل شعبي عن "جهنم" يصف المشهد حرفيًا، ولكنه للأسف غير لائق. وللأسف أيضًا، فإن هذه الأمثلة هي فقط غيضٌ من فيض عن هذه الصراعات العبثية.
تعمل جميع هذه الانحرافات والمعارك الهامشية على كسر الوحدة، وإضعاف الجهود، وتقويض التصميم الجماعي المطلوب لإيقاف الإبادة الجماعية في غزة، وتصرف الانتباه عن المعركة الرئيسية والمجرم الرئيسي ومن يتواطأ معه، وتضعف التركيز على الهدف الأساسي بإيقاف الإبادة الجماعية والتركيز على مساءلة المجرم الصهيوأمريكي بدلًا من الانجرار وراء المعارك الهامشية، التي تقلل من خطورة الوضع وإلحاحه، وقد تسهم في إطالة أمد معاناة أهلنا في غزة، وإعاقة التدخل الفعال لوقف العدوان.
في النهاية، رجاءً لا تتوقفوا عن الحديث عن فلسطين والمدافعة عنها، ولا تنسوا معاناة أهلنا في السودان وسوريا بدلًا من المعارك الهامشية.