لم نعرف عن فلسطين قبل "طوفان الأقصى" ما عرفناه بعدها، ولم نشعر يومًا بالحاجة إلى معرفتها حق المعرفة كما هو حالنا اليوم، لا لأننا لم نكن مهتمين أو لم تكن هناك حاجة إلى المعرفة، وإنما لأن حضور القضية الفلسطينية تراجع خلال السنوات الأخيرة لأسباب عدة، منها غياب أي حراك فلسطيني شعبي واسع بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وانشغال الإعلام العربي بثورات الربيع العربي وما تبعها من صراعات وحروب أهلية في بعض الدول العربية.
ولأنني أتحدث عن جيل القرن الحادي والعشرين، وعن نفسي كسوري، فقد كنا خلال هذه السنوات مأخوذين بما يحدث حولنا من قصف وموت ودمار، ومحاولة فهمه والتعامل مع تداعياته.
في هذه السنوات، كنا مع فلسطين دون أن نشعر بأنه يجب علينا معرفة تاريخها وتاريخ قضيتها. كان موقفنا منها وتضامننا معها قائم على الفطرة إلى حد كبير. وحين حُوصرت القضية بخطابات تُدينها وتشيطنها عشية تطبيع بعض الدول العربية مع "إسرائيل"، برعاية أميركية، وفي المرحلة التالية له، قاومنا ادعاءات ودعايات وافتراءات هذه الخطابات الزائفة، والصهيونية في مضمونها وغاياتها، بالفطرة.
ولكن ذلك بدأ يتغير بعد اشتداد حملة شيطنة القضية الفلسطينية، ومحاولة تصفيتها بطرق مختلفة، ثم هبّة أيار/مايو 2021، وصولًا إلى الحرب الإسرائيلية الوحشية المستمرة على قطاع غزة منذ 235 يومًا. فبين ترويج دعايات وافتراءات زائفة وقائمة على سرديات الحركة الصهيونية من قِبل الدول المطبّعة بهدف تبرير تطبيعها مع "إسرائيل" وتحالفها معها، وتحميل القضية الفلسطينية مسؤولية ما أنتجته الأنظمة العربية القمعية على مدار عقود، من تعثّر التنمية إلى الانقلابات العسكرية وقمع الحريات – وكأن فلسطين لعنة حلّت على العرب – وحرب الإبادة الجماعية الراهنة في غزة؛ أصبح لدينا اهتمامًا متزايدًا بمعرفة فلسطين والجوانب التاريخية لقضيتها التي أعادتها غزة وتضحيات أهلها إلى الواجهة مجددًا.
كانت فلسطين، منذ بداية قضيتها ومأساتها، محاطة إن لم تكن محاصرة بأولئك الذين يريدون أن يُساء فهمها، وأن يكونوا وحدهم أصحاب الحق في تفسير قضيتها
تضاعف هذا الاهتمام أمام حقيقة أن أنظمة الحكم في بلداننا كانت، ولا تزال، تعتّم على جوانب مختلفة من تاريخ فلسطين وقضيتها، سيما في المناهج الدراسية والإعلام، ذلك أن فلسطين التي عرفناها في مدارس "سوريا الأسد"، على سبيل المثال، غير فلسطين التي تعرفنا إليها في كتابات أبنائها من باحثين ومؤرخين ومفكّرين.
وبين أنظمة تشيطن القضية الفلسطينية لتبرير تطبيعها مع الكيان الصهيوني وتحالفها معه ومنح جرائمه شرعية قانونية وتاريخية، والتعامل معه بوصفه دولة طبيعية يحق لها الدفاع عن نفسها في مواجهة "إرهاب الفلسطينيين"، وأخرى استخدمت القضية الفلسطينية أداتيًا وسعت خلال ثورات الربيع العربي إلى الارتباط بها والتماهي معها بهدف توفير مبرر لقمع الاحتجاجات الشعبية ضدها، بعد أن صوّرتها على أنها مؤامرة صهيونية تستهدفها بسبب مواقفها الداعمة لفلسطين وقضيتها؛ ندرك اليوم، متأخرين ربما، أن فلسطين كانت طوال العقود السابقة، الأحرى منذ بداية مأساتها، محاطة إن لم تكن محاصرة بأولئك الذين يريدون أن يُساء فهمها، وأن يكونوا وحدهم أصحاب الحق في تفسير قضيتها بحيث تُفهم، منّا ومن غيرنا، من خلالهم ووفق شروطهم أيضًا.
وما يتضح منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وصولًا إلى حرب الإبادة الجماعية الراهنة في غزة، أن هذه الأنظمة، وخاصةً نظام الأسد، قدّمت للقضية الفلسطينية تفسيرات تُهمَّش فيها مسائل مثل الأخلاق والحقوق والحريات والديمقراطية وتركِّز على مصطلحات المقاومة والممانعة بحيث يصبح الأساس تبني القضية فقط بوصفها مصدرًا للشرعية، وكأنها بديلٌ عما سبق، أو أن ما سبق يتعارض مع القضية والدفاع عنها.
واليوم، حيث باتت العودة إلى تاريخ فلسطين ومسارات وتحوّلات القضية الفلسطينية منذ ما قبل النكبة إلى يومنا هذا ضروريًا في ضوء ما يحدث، نُدرك أن هذه الأنظمة لم تسع فقط إلى فرض نفسها وسيطًا بيننا وبين فلسطين، ولا أن تكون صاحبة الحق في تفسير قضيتها، وأن نفهم فلسطين من خلال تفسيراتها هذه؛ بل سعت إلى فرض إرادتها على الفلسطينيين أنفسهم، وعملت دائمًا على تجريدهم من حقهم في الاستقلال وتمثيل قضيتهم بالطريقة التي يرونها مناسبة. وهذا المسعى لا ينفصل عن مساعيها السابقة بل هو جزء منها.
أكثر من ذلك، قتل نظام الأسد، الأب والابن، فلسطينيين كُثر وحاصر مخيماتهم وجوّعهم في سوريا ومن قبلها في لبنان أيضًا. ما تفعله "إسرائيل" الآن فعله الأسد الأب والابن في مخيمات اليرموك وخان الشيخ في سوريا، وتل الزعتر في لبنان. والمفارقة اللافتة أن ضحايا الأسدين ينساهم جمهور المقاومة والممانعة لأنهم، ببساطة، فلسطينيون بطريقة تختلف عن تلك التي تتوافق مع تفسيرات النظام لفلسطين وتعريفه للفلسطيني وقضيته. الأحرى لأنهم فلسطينيون خارج هذه التفسيرات، بل ويقوضونها ويقوّضون ادعاءاته برمتها حول فلسطين وصورته كمدافع عنها.
هذه أشياء تصادفنا أثناء بحثنا عن فلسطين الحقيقية لا تلك التي كانت حاضرة في مدارسنا ومناهجها بمقدار حضور النظام نفسه. ومعرفة فلسطين من خلال ما كتبه أبناؤها يبيّن كيف أن قضيتها لا تنفصل عن قضايا الحرية والعدالة والديمقراطية والحق في العيش الكريم، كما لا تنفصل عن النضال ضد الاستبداد والاستعمار والاحتلال والحصار والعنصرية والتطهير العرقي وسلب الحق في تقرير المصير.
وكما أعادت تضحيات الفلسطينيين في غزة قضيتهم إلى الواجهة مجددًا، وكشفت كذب المؤسسات الإعلامية الكبرى، وزيف ادعاءات أنظمة المقاومة والممانعة، واستبداد الدول الديمقراطية التي تتحول إلى أخرى قمعية عندما يتعلق الأمر بـ"إسرائيل"، فإنها بيّنت أيضًا حقيقة القضية الفلسطينية وحقها علينا؛ هذا الحق الذي يقتضي منا التعرف عليها من خلال بناء معرفة عميقها بها، والإلمام بتاريخها بوصفها قضية حرية وعدالة، لكون المعرفة تمثّل الطريقة الأمثل لبناء وتكوين الموقف الأخلاقي المتماسك.