لأن القراءة ترحالٌ، والكتبُ أسفارٌ وقارات، فلتكن زاوية "مكتبة العالم" من "ألترا صوت" رحلةٌ في هذه الأقاليم، حيث نقف في كل أسبوع مع كتاب يمثّل ثقافة/حضارة ما.
تُجمع الكتابات التاريخية حول القارة الأميركية ما قبل الغزو الإسباني على أن شعوبها كانت على درجة عالية من الثقافة، وخاصةً شعب المايا في أميركا الوسطى الذي طوّر تقويمًا سنويًا خاصًا به، وبرع في مجالات الكتابة والنحت والعمارة والرياضيات والفلك، إذ ابتكر نظامًا دقيقًا لحركة الكواكب.
وأشار مؤرخون كُثر إلى أن شعب المايا كان حريصًا على التدوين، باستخدام الرموز والنقوش، عن أخبارهم وتجاربهم وتاريخهم وجغرافيتهم ووقائع كل سنة وطقوسهم وأعيادهم وقوانينهم إضافةً إلى شعائرهم الدينية، ما يؤكد تحضرهم الذي سعى الإسبان إلى إنكاره عند استعمارهم لأميركا.
وشاءت الصدف والأقدار ورغبات المستعمِر الإسباني ألا يبقى من ثقافة شعب المايا سوى القليل جدًا. فعدا عن فقدان وضياع جزء كبير من إرثهم المعرفي، وتناقل أخبارهم وحكاياتهم شفويًا، عمد الإسبان على إتلاف كتاباتهم ووثائقهم في إطار محاولتهم فرض ثقافتهم عليهم، وإجبارهم على هجر معتقداتهم الدينية القديمة لصالح اعتناق الديانة المسيحية.
يكشف "بوبول فوه" وجهة نظر شعب الكيتشه، أحد شعوب المايا، عن نشوء العالم وخَلقِ الإنسان الذي يقول إنه خُلِقَ من الذُرة بعد 3 محاولات فاشلة
في هذا الواقع الجديد الذي فرضه المستعمِر، وتحت تأثير شعورهم بأن ثقافتهم الممتدة على آلاف السنوات على وشك الاندثار إلى الأبد، قرر بعض أفراد شعب الكيتشه، أحد شعوب المايا، تعلّم الأبجدية الإسبانية والكتابة بها للحفاظ على إرثهم الأدبي، وجزء من تاريخهم وحكاياتهم. لكنهم كانوا، في الواقع، يُحاولون إعادة كتابة كتابٍ يُسمّى "بوبول فوه" كان مكتوبًا منذ القدم، ومحجوبًا عن الآخرين.
لم يكتب هؤلاء الكتاب نفسه، لكنهم قدّموا كتابًا مدهشًا في مضمونه سيكتشفه كاهن إسباني يُدعى فراي فرانشيسكو خيمينيث وصل إلى غواتيمالا قادمًا من إسبانيا عام 1688، واستطاع التقرّب من الهنود الكيتشه وكسب ثقتهم، فأطلعوه حينها على الكتاب الذي كُتب بالأبجدية الإسبانية ولكن بلغتهم. ويرجّح المؤرخون والباحثون أن يكون كتبة الكتاب انتهوا من كتابته عام 1544.
أدرك خيمينيث، سريعًا، أنه وقع على كنز ثمين. ولأنه كان على دراية كافية باللغة المحلية، عكف على دراسة الكتاب وترجمته، ومنحه عنوانه الأول "حكايات أصل هنود هذا الإقليم في غواتيمالا". وكانت الترجمة الأولى للكتاب صعبة الفهم وغامضة إلى حد ما، فأعاد مراجعتها ليقدّم نسخة أخرى أكثر وضوحًا من الأولى التي كانت حرفية إلى حد كبير.
ورغم أهميته بوصفه مدخلًا لفهم تاريخ وحياة وحضارة شعب الكيتشه، إلا أن الكتاب ظل مجهولًا إلى أن اكتشفه الرحالة النمساوي كارل شيرزر الذي صادفه في مكتبة جامعة غواتيمالا عام 1854، وقام بترجمته ونشره في فيينا عام 1857. وبعد عام واحد، اكتشف شارل إتين براسوردي بوربوغ مخطوط خيمينيث وقام بترجمته إلى الفرنسية ونشره في باريس عام 1861، وتضمّنت ترجمته النص الكيتشي وتعليق مسهب حول مضمون الكتاب.
واختار بوربوغ من "بوبول فوه" عنوانًا لترجمته، ليصبح العنوان الذي يُعرف به الكتاب حتى يومنًا هذا، وذلك على اعتبار أن كتبته كانوا في الأصل يحاولون إعادة كتابة الكتاب القديم الذي فُقد أثرهُ منذ زمن، وكان يُعرف بين الكيتشه بهذا الاسم.
وتوالت بعد ذلك ترجمة الكتاب إلى لغات مختلفة حول العالم، وأصبح مرجعًا أساسيًا للباحثين والمهتمين بتاريخ أميركا الوسطى وشعوبها الأصلية، الذي يستعرض الكتاب، بشكل أو بآخر، مجموعة واسعة من تقاليدها وأنماط عيشها. ووصف المؤرخ الأميركي الشهير هوبير هوفن بانكروفت "بوبول فوه" بأنه من أندر ثروات الفكر البدائي في العالم الجديد.
يتكوّن "بوبول فوه" من 4 أقسام، أهمها القسم الذي يصف أسطورة الخلق، خلق السماء والأرض ثم الإنسان الذي خُلِقَ من الذُرة بعد 3 محاولات فاشلة من الآلهة. وتقول الحكاية إن الخالق الرئيسي أفعى عظيمة تُعرف باسم " غوكوماتز". لكنها، مع ذلك، لم تكن وحدها بل شاركتها في عملية الخلق هذه عدة مخلوقات أخرى تحمل الصفات الإلهية، ولم تكن عملية الخلق هذه سهلة على الإطلاق، بل شاقة وعسيرة نجحت في النهاية.
ويروي الكتاب، إلى جانب أسطورة الخلق، حكاية أخرى عن شابين يحملان صفات إلهية تقدّم حكايتهما درسًا في الأخلاق والعقاب على الذنب. ثم تتوالى بعد ذلك حكايات أخرى عن أصول الشعوب الهندية الغواتيمالية وهجرتها وحروبها وصراعها على الحكم إلى أن تسيّد الكيتشه، الذين يستعرض صفات وأسماء وتسلسل الملوك الذين حكموهم. وما يظهر من الكتاب أن هذه القبائل كانت الأشد ثقافة بين القبائل الأخرى في أميركا الوسطى.
يقول كتبة الكتاب في ديباجته إنهم يكتبون: "بداية وأصل كل ما جرى في مدينة كيتشه، على يد قبائل الأمة الكيتشية"، ويكتبونه: "في حدود قانون الرب، في المسيحية، ونخرجهُ إلى النور لأنه ما عاد يُرى البوبول فوه، المسمّى هكذا، حيث كان يبدو فيه واضحًا القدوم من الجانب الآخر للبحر، وحكاية ظلمتنا، وفيه كانت تبدو الحياة جلية".
وتضيف الديباجة في مطلع الكتاب: "لقد كان الكتاب الأصل موجودًا، كان مكتوبًا منذ القدم، لكن رؤيته محجوبة على الباحث والمفكر. عظيمًا كان وصف ورواية كيف تكونت السماء والأرض كلها، كيف تكونت وقسّمت إلى أربعة أجزاء، وكيف أشهرت والسماء قيست وجيء بحبل القياس ومدّ في السماء والأرض، في الزوايا الأربع، في الأركان الأربعة، مثلما أمر الخالق والصانع، أم الحياة وأبوها، أم كل ما هو مخلوق، وأبوه ذاك الذي يمنح النفس والفكر، وتلك التي تُخرج الأبناء إلى النور، الذي يسهر على سعادة الشعوب، سعادة الجنس البشري، العليم، الذي يفكّر بصلاح كل ما هو موجود في السماء وفي الأرض، في البحيرات وفي البحار".
الجدير بالذكر أن الطبعة العربية من الكتاب صدرت عن "دار منارات للنشر" في عمّان عام 1986، بترجمة صالح علماني، وتحت عنوان "بوبول فوه: كتاب المجلس، الكتاب المقدس لقبائل الكيتشي- مايا".