هم "اللامرئيون"، أبناء المغتصبات في حرب البوسنة، مطلع تسعينات القرن الماضي، ممن استبيحت أجساد أمهاتهم من قبل الأطراف المقاتلة، ليحلوا في هذه العالم بلا هوية.
يشترك أبناء الاغتصاب في البوسنة، وتقدر أعدادهم بالآلاف، بوضعية عيش مزرية، مع عدم الاعتراف بوجودهم بالنسبة للمصالح الحكومية
احتاج الأمر ربع قرن كي يخرجوا للعلن، على مسرح بالعاصمة ساراييفو، وأمام جمهور غفير، حيث عُرضت مسرحية تروي قصتهم. في أحد مشاهدها تروي آينا جوستيش، أول طفلة سُجلت مولودة اغتصاب خلال تلك الحرب: "أظن أن أمي تكرهني لأنني تذكار حيّ على أكثر تجربة مروعة عاشتها".
اقرأ/ي أيضًا: بعد عقدين من مذبحة سربرنيتشا.. وكأن شيئًا لم يكن!
وتأتي مسرحية "باسم الأب" من إنتاج مشترك نمساوي بوسني، كأحد مشاريع رابطة "أطفال الحرب المنسيين"، التي أسستها آينا جوستيش بهدف مساعدة أبناء الاغتصاب خلال الحرب، وأول هذه المساعدة التعريف بهم.
نسل حرب البوسنة
رفضت آينا الإفصاح عن الخلفية العرقية لوالدها، معتبرة أنه "ليس هناك شعوب سيئة، هناك فحسب أفراد سيئون"، مؤكدةً أن "الاغتصاب صدمة للجميع ولا يمكن النظر إليه نظرة عرقية".
تقود آينا الآن رابطة للضحايا من نفس حالتها، الشيء الوحيد الذي ساعدها على تخطي حالة الصدمة التي خلفها اكتشاف أصولها. تقول في مقابلة لوكالة رويترز: "كانت هناك حاجة لأعرف أنني لست وحدي"، مستدركةً: "لكن وضع الوصمة للمغتصبات في مجتمعنا يجعل من الصعب الوصول إلى هؤلاء الأطفال، لأن الأمهات غير مستعدات في الأغلب للإعلان عن صدمتهن".
واحد من الذين عاشوا نفس مصير آينا، هو آلان، الذي اختطف جنودٌ صربٌ أمه البيولوجية من شقتها، لتجد نفسها بعد ذلك في مركز اغتصاب فوتشا، شرقي البلاد. بعد حملها وُضعت الأم في مستشفى إلى أن أنجبت آلان، لتتخلى عن وليدها بعدها، ويتبناه موظف بذات المستشفى. "أكبر حرب أخوضها هي مع نفسي"، يصرح آلان لصحيفة مينشي اليابانية، مضيفًا:"لم أولد عن حب، بل عن كراهية".
بعد بلوغه سن الـ16، قرر آلان أن يتعرف على أمه البيولوجية ويقابلها، وكذا على أبيه الصربي. وبالفعل قابلهما عدة مرّات، ذلك بعد أن علم في سن صغير حقيقته من صبي عيّره بـ: "أنت لست بوسنيًا. أنت تعيش مع أبوين ليسا أبويك الحقيقيين". كان يأمل أن الصبي يكذب عليه من باب التنمر، لكن الحقيقة أُكدت له على لسان أبيه بالتبني.
التقى بعدها آلافن بمخرج سينمائي، ساعده في إيجاد والديه، جاعلًا من قضيته فيلمًا وثائقيًا عنون بـ"فخ الطفل الخفيّ". وقد ساعدَ الفن آلان على تحقيق أمنية كانت كفيلة بتخفيف أثر صدمته الوجودية، وهي رؤية والديه.
لكن، مع ذلك ذلك كرس اللقاء مع المغتصب، الأب البيولوجي، الكره الذي كان يكنه آلان تجاهه، إذ رفض الاعتراف بمسؤليته الاعتبارية اتجاه أفعاله، قائلًا: "أنا لست مسؤولًا، ولم أرتكب أي شيء خاطئ"!
بينما الأم، والتي رفضت لقاءه في البداية، التقى بها في العاصمة سراييفو بمساعدة منظمة "النساء ضحايا الحرب". كان لقاءً مفعمًا بالمشاعر، يحكي عنه آلان: "وجدتها على أريكة الشقة التي قيل لي إنها موجودة بها. ومع دخولي انفجرت بالبكاء، وانهمرت دموعي كذلك. سألتني: هل أنا أمك؟ أجبت بالنفي لأن أمي هي التي كبرت في حضنها. قالت لي إنها حاولت رؤيتي عدة مرات، وعدة مرات عادت لبلدتنا ووقفت على مقربة من بوابة المدرسة كي تراني".
يعتبر آلان أن هذه اللقاءات ألقت عن كاهله حملًا ثقيلًا يعود لأول يوم عرف فيه حقيقته، بينما أطفال من نفس حالته دائمًا ما كانت تُخفى عنهم الحقيقة، ومنهم من عانوا عدم الاعتراف القانوني، وبذلك حرموا من التعليم والخدمات العمومية.
وتبقى أعداد أبناء الاغتصاب في البوسنة، مجهولة، ففي حين يقدرها البض بأربعة آلاف، يؤكد آخرون أنه تقدير غير دقيق، كما ورد في دراسة بعنوان "أبناء الحرب".
لكنهم، أي أبناء الاغتصاب في البوسنة، يشتركون غالبًا في أوضاعهم الاجتماعية المزرية، ذلك لحرمانهم من الاعتراف الرسمي بوجودهم، لذا فهم فعليًا لا وجود لهم بالنسبة للمصالح الحكومية.
أما المحظوظون منهم، فهو الذين يتم تبنيهم. لكن الأغلبية تعيش أو عاشت في ملاجئ الأطفال مجهولي الهوية، أو بالأحرى أصحاب الهوية المرتبطة بجرائم الحرب التي أتت بهم إلى الحياة.
الاغتصاب كوسيلة حرب!
" كل ليلة كان يأتي مجند ليعيننا بحركات أصبعه: أنتِ وأنتِ وأنتِ؛ ورائي! وكنا نتبعه كأي دواب متجهة إلى مسلخها. وكنت إذا ما لم يقع علي الاخيار تلك الليلة، أراقبهن وهن يمشين، غير موقنة أنني سأراهن مرة أخرى أم لا". كان هذا مقتطف من شهادة "الشاهدة رقم 99" أمام المحكمة الدولية بلاهاي.
رقم 99 الاسم الذي التصق بها على طول المحاكمة، حماية لها من أي رد فعل انتقامي. والشاهدة رقم 99 هي امرأة بوسنية، ضحية اغتصابات جماعية متتالية من قبل الجنود الصرب.
وقد شهدت أمام المحكمة بأنها كانت معتقلة بمجمع رياضي تسيطر عليه قوات صربية في مدينة فوتشا شرقي البلاد، رفقة 100 امرأة وفتاة، كن يقتدن كل يوم ليكن ملهاة الجنود المرابطين في المدينة.
هذه الشهادة ليست واحدة أو وحيدة، بل من بين 20 إلى 50 ألف امرأة بوسنية تم اغتصابها خلال تلك الفترة، لا زلن يحملن جراحهن إلى الآن.
شهادة أخرى سجلتها منظمة العفو الدولية، لامرأة بوسنية تدعى إلما، كانت حاملًا في شهرها الرابع عندما اجتاح الصرب بلدتها، ليتم اقتيادها بعد ذلك إلى مجمع اغتصاب.
ظلت إلما في المجمع، تتعرض لأبشع الاعتداءات الجسدية يوميًا، حتى فقدت جنينها. تقول: "كانوا يلبسون أقنعة لإخفاء وجوههم، ويتوالون على اغتصابنا، ويلهون بالسؤال عما إذا كنا نعرف من يكونون حقًا أما لا".
وفي تقرير نشر بالجريدة الرسمية للمحكمة الدولية سنة 2007، يكشف تفاصيل الجرائم التي وقعت في إقليم فوتشا بعد اجتياحها من قبل القوات الصربية التي عمدت إلى تهجير الغالبية المسلمة للإقليم، جاء فيه أن "التهجير بالرعب كان أبرز الطرق المستعملة".
وبعد الاجتياح، عزلت القوات الصربية النساء البوسنيات عن الرجال، واحتجز كل جنس على حدة في مراكز اعتقال خاصة، لم تكن سوى البنايات الحكومية من مدارس ومستشفيات ومجمعات رياضية، حولتها القوات إلى معتقلات جماعية.
في حين كان الرجال يعذبون ويقتلون، كانت النساء تتركن لأغراض جنسية. وكانت النسوة المحتجزات من فئات عمرية متعددة، منهن من لم تتعدَ سن الـ12. وفي ظروف مأساوية يطبعها قلة التغذية والنظافة العامة، وانعدام المرافق الصحية؛ كنّ يُغتصبن ويُعذبنَ بطرق وصفت بـ"البشاعة". ومن كانت ترفض الامتثال للأوامر تقتل مباشرة وأمام أنظار الأخريات لتكون عبرة. والكثير منهن لم يستطعن تحديد عدد المرات اللاتي تعرضن فيها للاغتصاب لكثرتها.
ويتفق تقرير المحكمة الدولية وتقارير منظمة العفو الدولية، على أن النساء المسلمات في البوسنة كن الأكثر عرضة لهذه الجرائم، ومثلن النسبة الغالبة من المحتجزات داخل مراكز الاغتصاب تلك.
ليتضح أن الاغتصاب لم يكن عرضًا جانبيًا للحرب، بل أداة أساسية من أدواتها إمعانًا في الإهانة والترهيب، بغرض إستراتيجي يتمثل في إحداث تغيير ديموغرافي على الأرض.
وفي حين كان المدانون الرئيسيون هم عناصر القوات الصربية، إلا أن هذا لا ينفي أن بعض النساء تعرضن للاغتصاب حتى من جنود قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
مغتصبات بلا اعتراف
"25 سنة بعد الحرب، وعشرات الآلاف من النساء البوسنيات لا زلن يحاولن لملمة حياتهم المتشظية وإعادة بنائها، غير قادرات على الاعتماد على أي دعم خارجي، ماديًا كان أو طبيًا أو نفسيًا، رغم حاجتهن الماسة له"، توضح غوري فان غوليك، مديرة الفرع الأوروبي لمنظمة العفو الدولية، في تقرير سابق نشر عن هؤلاء النسوة، بعنوان "نريد دعمًا لا شفقة".
25 سنة بعد المأساة التي عاشتها إلما، انتهى بها الأمر لتعاني من ألم في العمود الفقري من كثرة الاغتصاب والتعنيف المبرح، وأمراض نفسية لا تكفي التعويضات المقدمة من قبل الحكومة البوسنية سدادها؛ عاطلة عن العمل تعيش على الفتات في أوضاع مأساوية.
ولا تقل عنها ضحايا المجمع الرياضي بفوتشا، فقرًا وعوزًا، وحرمانًا من رد الاعتبار ولو رمزيًا. تقول الشاهدة 99: "سنة 2011 كان من المفترض إقامة نصب تذكاري لمأساتنا أمام مجمع بارتيزانا الرياضي بفوتشا. وعندما ذهبنا هناك أوفقوا سياراتنا ومنعونا من النزول، وبعد ذلك طردونا من المكان!".
وإلى الآن، لا تزال الشاهدة 99 ورفيقاتها من ضحايا الاغتصاب، يرون مغتصبيهن من عناصر القوات الصربية، طلقاء، يصولون ويجولون بسلطتهم على شمال وشرق البلاد، فيما يعرف بجمهورية صربيسكا، غير المعترف بها دوليًا، والتي أقيمت على إثر اتفاق دايتون.
في المقابل، تعرف العدالة في هذه القضية عراقيل جمة، إذ يقول تقرير منظمة العفو الدولية، إنه منذ 2004، لم يستمع القضاء البوسني سوى لـ1% من ضحايا الاغتصاب، ولم تعالج المحاكم البوسنية سوى 123 قضية في هذا الصدد، فضلًا عن طول مدة المحاكمات وضعف جذوتها، فالعديد من الضحايا لم يعشن ليشهدن رد اعتبار قضائي على ندرته. الشيء الذي يشيع وسطهن حالة انعدام ثقة في القضاء وينسف العملية برمتها.
وتدق كل التقارير المذكورة ناقوس الخطر فيما يخص الوضعية الاجتماعية لضحايا الاغتصاب، في الوقت الذي تتفشى فيه البطالة في أوساطهن، فـ800 منهم فقط يتلقين تعويضات أو رد اعتبار مادي، لا يتعدى 20 دولارًا شهريًا، في غيابٍ لأي برنامج وطني لجبر هذا الضرر اجتماعيًا واقتصاديًا.
لم يكن اغتصاب الصرب للبوسنيات عرضًا جانبيًا للحرب، بل أداة أساسية لها إمعانًا في الإهانة والترهيب، ولإحداث تغيير ديموغرافي
هذا بخلاف وضعيتهن داخل الأراضي الواقعة تحت سيطرة صرب البوسنة، أو ما تعرف بصربيسكا، التي لا تعترف أبدًا بوجودهن، فضلًا عن أن يكون لهن قضية وحق، ما يجعلهن غير مستفيدات من خدمات صحية أو إعادة تأهيل نفسية بعد كل الصدمات التي عشنها.
اقرأ/ي أيضًا:
روسيا تستثمر في تفتيت البوسنة.. إعادة إنتاج "البلقنة"
ما تقوله معسكرات الاعتقال في البوسنة عن القمع الأمريكي للاجئين