لطالما تخطر ببالنا بعض التساؤلات البديهية حول المال، هذا الشيء الذي نتعامل به يوميًا ويشكل هاجس حياتنا الأول، لكن كثيرًا ما نغض الطرف عن التفكير بها متجاهلين فضول المعرفة، من البساطة الظاهرة التي تبدو عليها هذه الأسئلة، بحيث قد نخجل من طرحها أمام الآخرين، غير أنه في الحقيقة معظم الناس ربما لا يدركون الجواب الشافي عنها.
العملة الصعبة هي العملات المعتمدة في السوق الدولي، وتنحصر في الدولار واليورو والين الياباني، واليوان الصيني الذي سيُدرج قريبًا
ماذا نقصد بالمال؟
كل شخص في هذا العالم يستعمل المال، وجميعنا نرغب بشدة في كسبه، ونعمل بكد من أجله، إنه مصدر عيشنا، والوسيلة التي نشتري بها حاجياتنا ونقضي بها أغراضنا، دون أن نهتم بالضرورة لماهية هذه النقود.
في البدايات المبكرة للمجموعات البشرية، كان الناس يتعاملون بنظام المقايضة، فكان على الفرد الذي رغب في شراء كمية من القمح، أن يدفع مقابلها من بضاعة أخرى كالأرز مثلاً، ما أوجد مع مرور الزمن أشياء موحدة يتم بواسطتها الشراء حسب كل مجتمع، فاستخدمت بعض المجتمعات أكياس القمح كعملة للتبادل، وأخرى استعملت الأصداف، وبعضها تعامل بالأغنام والأبقار.
لكن ظلت هذه الطريقة مكلفة للوقت والطاقة، فظهرت قبل آلاف السنين العملات المعدنية من الذهب والفضة كوسيلة للتبادل، كونها سهلة الحمل ويمكن عدها بسهولة، وتطور الأمر إلى أن أصبحنا اليوم نستخدم الأوراق المالية والعملات النقدية كوسيلة فعالة ودقيقة للتبادل.
ومع ذلك، لا يتم التبادل اليوم دائمًا بواسطة هذه الأوراق المالية، فمن خلال النظام البنكي المتمازج مع التكنولوجيا الرقمية، باتت الأموال في عصرنا تنتقل إلكترونيًا، وظهرت عملات افتراضية مثل البتكوين (Bitcoin) حتى صار جزء كبير من أموال العالم هو عبارة عن أرقام في حواسيب.
وهكذا فإن المال في المحصلة وسيلة متفق عليها للتبادل بين مجموعة من الأفراد، ولا يحمل في ذاته قيمة، سواء كان أوراقًا أو قطعًا معدنية أو عملات افتراضية، وإنما يستمد قيمته من الثقة التي يعطيها الناس إليه. وكما يقول الاقتصادي ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل، "الأوراق الخضراء لها قيمة، لأن الجميع يفكرون أن لها قيمة".
هذا ما يجعل العملات المحلية، لا تساوي شيئًا في الخارج ولا يمكنك استخدامها للشراء، ما لم تحول إلى إحدى العملات الصعبة عن طريق مكاتب الصرف المحلية في بلدك، والعملة الصعبة هي العملات المعتمدة في السوق الدولي، وتنحصر في الدولار واليورو والين الياباني، واليوان الصيني الذي سيدخل قريبا سلة العملات المعتمدة عالميًا.
اقرأ/ي أيضًا: مجلة الاستثمار.. خفايا القانون الأكثر ريبة في تونس
من أين تأتي الأموال؟
يعتمد نظامنا السوقي اليوم بالأساس على المال، فدونه لا يوجد بيع أو شراء أو عمل، فهو محرك السوق والاقتصاد، لكن كيف يتم خلق هذا المال، المتمثل في الأوراق المالية والقطع النقدية؟
في كل بلد، يوجد بنك مركزي يتكفل بمهمة إصدار الأموال وتوزيعها، ويسهر على مراقبة سير النظام المالي المعتمد. على سبيل المثال في المغرب هناك "بنك المغرب"، وهو من يصنع القطع النقدية والأوراق البنكية التي يحتاجها السوق، ويسمى "نظام الاحتياطي الفيدرالي" في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتتلخص دورة انتقال الأموال في ثلاثة محاور: البنوك التي تقرض المواطنين والشركات والحكومة المال، ثم مجتمع السوق حيث يتبادل الأفراد والشركات السلع والخدمات مقابل النقود، والحكومة بدورها تشتري السندات المالية، وهي وثيقة إقرار بالدين، من البنوك، وتستخلص الضرائب من المواطنين.
ومن ثم تمر الأموال بعد صدورها أول مرة من البنك المركزي في هذه الدورة الاقتصادية، حيث كل من الحكومة والبنوك والأفراد والشركات يحتاجون لبعضهم البعض، مما يجعل تداول الأموال جاريًا بين هذه الأطراف الثلاثة بشكل مستمر.
هذا بالنسبة للاقتصاد الوطني، أما على مستوى الاقتصاد العالمي، فتأتي الدولة بالأموال، إما من خلال بيع صادراتها مقابل العملة الصعبة، وهي الطريقة الأكثر عملية، أو عن طريق الاستدانة من البلدان والمؤسسات المالية العالمية، كصندوق النقد الدولي، كما قد تقدم بعض الحكومات والمؤسسات مساعدات مالية.
وتجدر الإشارة إلى أن جزءًا كبيرًا من الأموال، يتم خلقها رقميًا فقط، وليس لها سند من العملات أو الذهب، ورغم ذلك فهي صالحة للتداول، إذ مع دخول عصرنا للسوق الرقمية، صار العالم الافتراضي سوقًا بذاته، يمكن تبادل الخدمات والسلع والاقتراض فقط عبر الإنترنت.
تأتي الدولة بالأموال، خاصة من خلال بيع صادراتها مقابل العملة الصعبة، أو عن طريق الاستدانة من البلدان والمؤسسات المالية العالمية
اقرأ/ي أيضًا: 6 سنوات في مسار ثورة تونس.. تحديات تنموية حارقة
لماذا لا تطبع الحكومة الكثير من المال وتنهي الفقر؟
تعاني معظم بلدان العالم الثالث من مشاكل اقتصادية حارقة، تتمثل في الفقر والبطالة وقلة الموارد، وقد يتساءل البعض لماذا لا تلجأ حكومات هذه البلدان، إلى طباعة الكثير من الأموال، وتحل مشاكلها الاقتصادية وتوزع على الفقراء النقود، ما دامت لديها الإمكانية التقنية لطباعة المال؟! لكن الأمر ليس بهذه البساطة.
يعتمد السوق على نظام العرض والطلب، أي أنه كلما زاد الطلب على الخدمات والسلع المعروضة في السوق، زادت الأسعار، وكلما قلّ الطلب على العرض انخفضت الأسعار، وتسعى الحكومات عادة إلى إقرار سياسات مالية تهدف إلى الموازنة بين الطلب والعرض، لضمان استقرار الأسعار.
لكن سوء الإدارة السياسية والاقتصادية في بعض البلدان، تقود إلى طباعة كثير من الأموال دون أن تستند على ما يقابلها في العرض، مما يؤدي إلى ما يصطلح عليه لدى الاقتصاديين بـ"تضخم الطلب"، وهو حين تكون النقود المتداولة كثيرة مقارنة بكمية السلع والخدمات التي يمكن للناس شراؤها، مما يُفقد النقود قيمتها.
لفهم التداعيات الخطيرة للتضخم، علينا استحضار حالة فنزويلا، التي يعيش اقتصادها حاليًا أسوأ أزمة في تاريخها، تكاد تودي بانهيار البلد، وذلك بسبب التضخم الناجم عن قيام الحكومة الفنزويلية بطباعة مفرطة وغير محسوبة للعملة الوطنية، مما أفقد العملة الفنزويلية %99 من قيمتها، وانكب الناس على الاستهلاك فنفد العرض من السوق، حتى باتت رفوف المتاجر ومخازن الأدوية فارغة في فنزويلا.
ولهذا السبب، فإن مواجهة الفقر بطباعة أموال كثيرة هي خطة فاشلة، يمكن أن تقود الوضع إلى الأسوأ، إذ أن امتلاك الكثير من الأموال ليس له قيمة إن كنت في بلد خال من العرض، وإنما القدرة الشرائية هي التي تضفي القيمة على المال.
اقرأ/ي أيضًا: