على الأرض، يعيشُ عددٌ يقاربُ المليارات الثمانية من البشر، وربما أكثر. من هؤلاء جميعًا، لم يحظ أحدٌ منهم لحظة ولادته بحق اختيار المكان، ولا الزمان، ولا الأصل، ولا اللون، ولا حتى اختيار لون ملابس الليلة الأولى، فكان ما كان، وصار ما صار. ومهما تغيّر في البشر من قناعات، ستبقى إحداثيات مكان الولادة هي ما تشكِّلُ توجه أغلب هذه المليارات الثمانية التي تتشارك في شهيق مكونات الجو المحيط بها، والشهور التسعة في العتمة – ربما سبعة لكن لا فرق – وتتفق على فقدان قدرة اختيار أي شيء، لكنهم على استعدادٍ لخوض معارك طويلة دفاعًا عن هذه الإحداثيات وتبعاتها التي لم يُستشاروا بشأنها.
.
لم نختر أن نولد هُنا، في الجنوب العالمي، وتحديدًا في بلاد الشام، وبالضبط تمامًا: في فلسطين.
لم نُسأل، ولم نُعطَ الخيار، ولم يتوفر بديل.
ولدنا هُنا، ولم نعرف أننا فلسطينيون وفلسطينيات إلا بعد حين، وذلك الحين كان لحظةَ وعي أشبه ببرق شقَّ عتمة فضاء نعيشه، فلا يجوزُ لنا ما هو طبيعيُ لغيرنا، والسيرُ بحذرٍ قرب الحائط تعليمات حفظناها – عشان بدناش مشاكل – وأن المستقبل يختلفُ بين "سينِ" و"صاد" لاختلافٍ في اسم العائلة.
لن تعرف الفرق بين أن تعيشَ في المكان الذي ولد فيه جدّك، وجدّ جدّك، وأن تعيشَ في المكان الذي هُجّر إليه جدّك، أو جدّ جدّك.
وحين سمعنا "درويش" يقول: "أنا من هُناك، أنا من هُنا" أَعجبنا البيت، والقصيدة، وانفعالُ اللاجئ الذي يسمعُ قصته من لاجئٍ آخر. صفقّنا له، لكننا لم نعرف حينها، أن هذه الجُملة هي اختصارُ كلّ شيء.
.
إن أيّ فلسطيني أو فلسطينية، عاقلٌ سويّ، يعيشُ على أرضها أو في المهجر، يتذكرُ أرض جدّه، أو جدّ جدّه، يعرفُ تمامًا أن ما كان عليه قبل السابع من تشرين الأول لا يُشبه أيّ شيء مما هو عليه بعده.
من لم يشعر أن الأرض أقرب بعد ذلك اليوم، وأن المستحيل ممكن، وأن قوّة الأرض وإن اجتمعت لن تهزم الحق، فعليه أن يعيد ضبط تفكيره، أو فليقرأ عن تاريخه. أو، أضعفُ الإيمان، أن يُعطي كبير عائلته ساعةً من وقته ليسمع، وليعرف ما حصل.
.
ولدنا في مدنٍ مختلفة، بعيدة عن جذورنا، عرفنا هذا مما سمعناه. وما تعلّمناه وصرنا عليه كان خلاصة تجارب أب وأم عاشوا ما لم نعشه، أخذنا منهم "يباسة الرأس"، وفي ذات الوقت التردد في تجربة المجهول. تسلل خوفهم من كل شيء إلينا، فصار المستقبل هو ما نهابه إن لم نكن مستعدين.
كوابيسهم التي عاشوها في الاحتلالين تسرّبت إلى مخيلتنا، فخفنا من الجنادب، والسحالي، والأفاعي، والكلاب، والأصوات في آخر الليل، وإغلاق باب الغرفة، واتصالات في غير موعدها. وخفنا من التأخر قليلًا عن موعدِ رجوعنا المتوقع، والذهاب إلى مكانٍ بعيد.
.
يتوزعُ الفلسطيني في تكوينه بين أثر النكبة والنكسة على أسلافه. وعلى ما يرثهُ منهم، يكون.
.
منذُ تدجين الانتفاضة الثانية، صار الفلسطيني هامشًا في نشرات الأخبار، وربع عامودٍ في الصحف، ومُنعَ استخدام وصف شهيد لمن يدافعُ عن حارته، وأرضه، وعرضه، وصارَ التسليمُ والذلُ حضارة وإنسانية، وحقوق الإنسان مطلوبة من الفلسطيني تجاه المحتل، لكنه حين يُنكَّل أو يُقتل أحدٌ منا؛ فذلك دفاعٌ عن النفس.
حقوقُ الإنسان لا تملك تأشيرة مرور للحدود الفلسطينية.
حقوق الإنسان ستمرُ، حين يعترفُ العالم بالحدود الفلسطينية.
.
السابع من تشرين الأول
تاريخنا المقدس، سنظلُّ نحتفلُ به.
هذا اليوم الذي شعرنا فيه أن لنا وجود، وأننا، على قلّتنا، سنغير شيئًا ما في التاريخ.
سؤالٌ عامٌ بانتظار إجابة؛
هل نحنُ ذاتنا بعد ذلك اليوم؟
.
ورثنا الخوف من العتمة، وأصواتًا لا نرى مصدرها، والمشي حفاة في حديقة البيت. ورثنا أننا انهزمنا، وتهجَّرنا، وأنّ لا أحد يصدِّقُ روايتنا.
ورثنا أننا لن نعود.
.
ثمّ جاء خمسة رجال حُفاة، صعدوا جَبلًا ترابيًا،
رأيناهم يقتلعون المُحتل من أرضنا.
وآخرٌ، يواجهُ أكثر أنواع دبابات "الميركافا" تحصينًا، بملابس رياضية و"حفّاية" جلدية، وعلى كتفه "قذيفة الياسين"، فدمَّرها.
صارت وهمًا، ابتلع معه وهمنا من كل خوفٍ عايشناه من هذا المحتل.
.
"ولّعت"
وسنعود.