في مشهد من فيلم "أيام السادات" يظهر أحمد زكي بصلعته السوداء اللامعة وغليونه في طرف فمه (على اعتبار أنه السادات طبعا) مستقبلًا "كومبارس" شبه صامت، رجلًا مربوعًا فاتح البشرة بنظارة طبية سميكة. يعاتب الريس ضيفه في أمر ما، ثم يبلغه قرارات رئاسية "هامة وحاسمة"، دون أن يترك له فرصة للكلام، ما جعل الرجل المسكين يكتفي بالهمهمة والتأتأة: طيب يا ريس.. مش كده والله يا ريس.. حاضر يا ريس..
كان أحمد بهاء الدين في علاقته بالسادات محاورًا ذكيًا وبارعًا، دبلوماسيا وشجاعًا في الوقت نفسه، يتقن تمرير ملاحظاته، ويعرف التوقيت المناسب للمجازفة بنقد لا يخلو من قسوة
من المفترض أن هذا هو أحمد بهاء الدين، الصحفي والكاتب المصري الراحل والذي تجاوزت شهرته نُخب السياسة والثقافة وصار نجمًا ذائع الصيت في مصر والعالم العربي، خاصة بعد تجربته الاستثنائية في مجلة العربي الكويتية..
والواقع أن بهاء الدين كان في حضرة السادات أكبر بكثير من مجرد "كومبارس"، لقد كان محاورًا ذكيًا وبارعًا، دبلوماسيا وشجاعًا في الوقت نفسه، يتقن تمرير ملاحظاته، ويعرف التوقيت المناسب للمجازفة بنقد لا يخلو من قسوة.. وقد دون الصحفي الراحل جولاته الطويلة المثيرة مع الرئيس المصري الأسبق في كتاب شيق عنوانه "محاوراتي مع السادات". ولا نعرف ما إذا كانت القيود الفنية البحتة هي التي جعلت صناع الفيلم يقزمون مادة هذا الكتاب الثري إلى مجرد همهمات وتأتآت، أم أن الصحفي الكبير قد خضع لتصفية حساب على يدي واحد من العديدين الذين ساهموا في طبخ هذا السيناريو.
على أي حال فإن علاقة بهاء الدين بالسادات ليست هي التي صنعت مجده. إنها نتيجة وليست سببًا، فقد صار الصحفي جليسًا للرئيس بعد أن ذاعت شهرته ككاتب ذي نظرة ثاقبة وثقافة غزيرة وأسلوب خاص في الوصول إلى الناس.
يضم كتاب "هذه الدنيا" مقالات بهاء الدين الأسبوعية في صحيفة "أخبار اليوم"، والتي واظب على كتابتها منذ العام 1959 وحتى العام 1964، ويقدم الكتاب فكرة عن مدرسة الصحفي وعن سر شهرته وعن سبب هذا الإجماع الكبير حول اسمه. هنا ثمة ميزة أساسية: تقديم أفكار عميقة، وقضايا شائكة، ومسائل مركبة.. بأبسط أسلوب، وارشق لغة، بحيث يضع شؤون العالم الجسيمة والمعقدة بين يدي القارئ العادي، الذي لن يجد صعوبة في الفهم ولا غربة إزاء ما يتم الحديث عنه..
تتنوع موضوعات الكتاب/المقالات بين السياسة والأدب والسينما والرحلات: مقال عن دور الحب الاجتماعي، وآخر عن مسرحية لتوفيق الحكيم، وثالث عن الانتخابات الأميركية، ورابع عن سارتر واليهود، وخامس عن رحلة إلى باريس.. وهكذا فقد كان قارئ أحمد بهاء الدين على موعد أسبوعي مع وجبة معرفية دسمة وسهلة البلع والهضم. وإذا كان البعض اليوم يستغربون الحديث عن دور ثقافي تثقيفي للصحافة، فإن "هذه الدنيا" يقدم دليلًا وتفسيرًا ..
ولد أحمد بهاء الدين في الإسكندرية في 11 شباط/فبراير من العام 1927. تخرج في كلية الحقوق في القاهرة في العام 1946. نشر، وهو في عمر صغير، الكثير من المقالات في صحف ومجلات عديدة، وسرعان ما صار نائبًا لرئيس تحرير مجلة "روز اليوسف". ثم أصبح أصغر رئيس تحرير في مصر (كان في التاسعة والعشرين من عمره) عندما تولى رئاسة تحرير مجلة "صباح الخير" التي أصدرتها دار "روز اليوسف" سنة 1956، والتي رفعت شعار "للقلوب الشابة والعقول المتحررة". وبعد سنتين تولى رئاسة تحرير صحيفة "الشعب" الأسبوعية، وفي عام 1959 أصبح أحد رؤساء تحرير صحيفة "الأخبار" اليومية. كان بهاء الدين أيضا أحد أبرز كتاب صحيفة "أخبار اليوم"، والتي تولى رئاسة تحريرها مرتين، في عامي 1961 و1962. شغل أيضًا منصب إدارة دار الهلال، كما عين رئيسا لتحرير جريدة "الأهرام".
يظهر جليًا في "محاوراتي مع السادات" كم هو صعب أن يكون الصحفي قريبًا من رأس السلطة في عالمنا العربي. إنها معركة يومية شاقة للحفاظ على الاستقلال وإرضاء الضمير والاحتفاظ بالكرامة
يظهر جليًا في "محاوراتي مع السادات" كم هو صعب أن يكون الصحفي قريبًا من رأس السلطة في عالمنا العربي. إنها معركة يومية شاقة للحفاظ على الاستقلال وإرضاء الضمير والاحتفاظ بالكرامة. كان السادات دائم الشكوى والتذمر من كتابات بعض الصحفيين، وكان بهاء الدين يدافع باستمرار واستماتة. ولم تخل هذه المجادلات شبه اليومية من الكوميديا. قال السادات مرة: "يا أحمد فلان الذي يكتب هذه الزاوية شيوعي متطرف"، فيرد بهاء الدين: "فلان سبق له أن سجن لأنه إخوان مسلمين"!
وكان السادات يفضل أن يخوض بعض المعارك بطريقة غير مباشرة تجعله لا يظهر في الصورة، فيدفع مرؤوسين له للقيام بذلك، ثم يتنصل من الأمر. هكذا حاول دفع بهاء الدين لتصفية مجلة "الطليعة" الماركسية، ولكن الصحفي المحنك استطاع أن يمتنع دون أن يدفع ثمن امتناعه، وكذلك فعل خليفته إحسان عبد القدوس، إلى أن جاء يوسف السباعي بعدهما وباشر إنجاز المهمة.
يبرز الكتاب عيوب السلطة عندما تكون مركزة في شخص واحد، فيحكم المزاج، وتغلب العشوائية، ويلعب مستشارو السوء أدوارًا وبيلة.. كما يبرز مأساة الصحافة العربية عندما تكون ملتصقة بالسلطة وتابعة لها.. وأيًا كان دور الصحفي إزاء هذه السلطة، وأيًا كانت شجاعته ونزاهته.. فتبقى المشكلة في اضطراره إلى أخذ شرعيته منها، لا من القراء، أو ما يسمى بمحكمة الرأي العام.
ثمة كتاب شهير آخر لأحمد بهاء الدين، هو "أيام لها تاريخ"، وفيه يقدم صفحات من التاريخ المصري والعربي، صائغًا حكايا طريفة، مزاوجًا بين المعلومة الدقيقة والسرد الرشيق الجذاب والممتع. هنا، مثلًا، قصة عبد الله النديم ومغامرة هروبه من الاحتلال الإنكليزي الذي رصد جائزة كبيرة للقبض عليه. وكذلك قصة زواج الشيخ علي يوسف، الصحفي والسياسي المصري، مطلع القرن العشرين.. عندما كانت مهنة الصحفي عيبًا ومذمة، إذ تقدم ولي أمر العروس للطعن في زواج ابنته على اعتبار أن زوجها غير كفؤ لها، إذ ثبت، والعياذ بالله، وبشهادة الشهود أنه يعمل "جورنالجيًا".. وقصة "امبراطورية زفتي"، القرية المصرية التي شاركت في ثورة 1919، وأعلنت استقلالها في ما يشبه الكومونة..!
تشكل تجربة أحمد بهاء الدين مع مجلة "العربي" الكويتية، التي تولى رئاسة تحريرها بين عامي 1976 و1982، درسًا في الصحافة، وتحديدًا لجهة المزاوجة بين الجدية والعمق والثقافة الرفيعة من جهة والجماهيرية من جهة أخرى.
موته يكمل صورته: لقد أصيب بنزيف دماغي عندما سمع بالغزو العراقي للكويت، وظل أسير الفراش والعجز طيلة ست سنوات حتى توفي يوم 24 آب/أغسطس العام 1996.