هذه المساحة مخصصة لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.
في الرابع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر المقبل، تحل الذكرى الـ45 لوفاة المؤرخ اللبناني - الأمريكي فيليب حتي (1886 - 1978)، الذي يُعتبر من أهم الذين أرّخوا لتاريخ وحضارة العرب في حقب ومراحل تاريخية مختلفة، قدّم حولها قراءة علمية رصينة وشاملة منحته المكانة التي يحظى بها اليوم.
أصدر الراحل العديد من المؤلفات التاريخية المهمة التي يُعد بعضها اليوم مرجعًا أساسيًا للباحثين والدارسين على حد سواء. ولكن يبقى "تاريخ العرب" (مطوّل) الصادر بطبعته الإنجليزية عام 1939، والعربية في عام 1949 عن "دار الكشاف" في بيروت في ثلاثة أجزاء، أهم كتبه على الإطلاق.
يؤرخ فيليب حتي في كتابه لتاريخ وحضارة العرب منذ عصر ما قبل الإسلام وصولًا إلى عهد الدولة العثمانية
يتحدث حتي في الجزء الأول من الكتاب عن عصر ما قبل الإسلام، فيستعرض صفات وطبيعة شبه الجزيرة العربية، وحياة سكانها، وقضايا الغزو، والتدين، والعصبية، وعلاقاتهم مع الدول والإمبراطوريات المحيطة بهم. وذلك بالإضافة إلى الدول والممالك التي كانت قائمة قبل الإسلام.
ويقف الراحل عند أحداث فارقة في تاريخ العرب، مثل حرب البسوس، ويوم داحس، وغيرهما. كما يتوقف مطولًا عند عصر البطولة والفروسية والشعر، قبل انتقاله إلى ظهور الإسلام، وتكوّن دولة الخلافة، وعصر الفتوحات والتوسع، ثم عصر الخلفاء الراشدين، وصولًا إلى الخلاف بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب على الخلافة.
أما الجزء الثاني، فقد خصصه للدولتين الأموية والعباسية، حيث ألقى الضوء على تفاصيل تأسيس معاوية للدولة الأموية، وطريقة بنائه لها ولمؤسساتها، خاصة السياسية والعسكرية. كما استعرض أيضًا الواقع السياسي والاجتماعي في العصر الأموي، ومناحي الحياة الفكرية آنذاك، وصولًا إلى انحطاط الدولة وانهيارها على يد العباسيين.
وهنا يروي المؤرخ الراحل تفاصيل صعود الدولة العباسية وتعاظم قوتها، ويتحدث عن تصاعد الاهتمام بالفكر والثقافة والترجمة، والتقدم العلمي والأدبي، بل وحتى الفنون الجميلة، وذلك قبل انتقاله للحديث عن طبيعة الحياة الاجتماعية بشكل عام، ومنها إلى أسباب تفكك الخلافة وانهيارها.
وفي الجزء الثالث والأخير، يستعرض فيليب حتي ظروف فتح العرب للأندلس، وقيام الدولة الأموية فيها بعد سقوطها في دمشق، وتحوّلها إلى إمارة مستقلة لها مؤسساتها السياسية والاقتصادية والعلمية الفاعلة، ثم انحلالها وسقوطها وبداية عصر ملوك الطوائف.
ويفرد الراحل في هذا السياق حيزًا واسعًا للحديث عن الحياة الفكرية والأدبية والعلمية في الأندلس كما يلقي الضوء على أبرز علمائها وأدبائها وشعرائها. ومن الأندلس، ينتقل صاحب "تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين" إلى الدول الإسلامية في العصور الوسطى وصولًا إلى هزيمة المماليك وقيام الدولة العثمانية.
وفي كتابه "نقدات عابر"، يقول الكاتب اللبناني الراحل مارون عبود إن فيليب حتي لم يدع: "شيئًا مما يتوق الباحث إلى معرفته، حتى كاد يلم بكل شيء، وكان في مواقفه جميعها يزيل الإبهام ويقرب التاريخ من العقل، فحدثنا عن دستورية الجاهلية، وعما عرف العرب من حضارة ومدنية وثقافة، فكانت لهم الزوايا الراسخة في بنيان الحضارة".