إنني غاضب وحزين جدًا وأشعر بالعار. غاضب من أجل حق يضيع على الإنسان. وحزين على بلد تتآكل بفعل حقيقة وجود دولة داخل دولة، وقانون داخل قانون، وغابة داخل غابة. لا أعتقد أن هناك قصة تتفوق مأساويتها على قصة أشرف فياض. فمن مثله قد جمع كل هذا في روح عاصفة بالأسى: شاعر وفنان ولاجئ وسجين محكوم بالقتل!
تقول قصة أشرف فياض أن هناك دولة داخل دولة، وقانونًا داخل قانون، وغابة داخل غابة
عرفت أشرف فياض في مطلع العام 2007 وكان سمينًا جدًا، وتبدو عليه سمات الارتياح النفسي. وذلك حين جمعني به الشاعر الجميل محمد خضر بأحد مقاهي أبها. حينها فرحت كثيرًا بهذه الإضافة لمدينتي. فقد أهداني وقتها نسخة من ديوانه الإشكالي "التعليمات بالداخل"، وكان شعره يوحي بتجربة أبهاوية شعرية رائعة، رغم أن قراءتي لنصوص الديوان اليوم اختلفت، وصرت أرى مثالبه وضعفه الفني بعين صافية، أو بالأحرى أكثر صفاء.
في عام 2012 اجتمعت أنا ومجموعة من الفنانين في أبها. منهم أحمد ماطر وإبراهيم أبو مسمار وعبدالكريم قاسم وأشرف فياض. وقررنا أن ننفذ فكرة السينما السرية. وهي نوع غير تجاري من السينما، ظهر في العديد من الأقطار الأوروبية لمجابهة السينما التجارية التقليدية. وامتازت بمكان عرضها غير المتوقع، كالشوارع والساحات العامة. وبعد تحديد المكان والزمان والعمل المعروض، وكان لأحمد ماطر، بدأنا في دعوة الحضور، وكنا قد اتفقنا على أن يكون الحضور من نخبة الشباب المثقف المطلع الذي لا يستعدي الفن والجمال.
وقد كان ذلك بالفعل. وتم العرض. وفي اليوم التالي طالعتنا صحيفة "الغارديان" البريطانية بتقرير مفصل عن العرض، وبأنها ثورة سينمائية في السعودية. حينها علمت بأن تدبير القصة كلها كان من أجل ظهور هذا التقرير المصنوع وليس من أجل أي شيء آخر، وذلك بالاتفاق مع محرر الجريدة وأحد الرفاق في المجموعة.
في ليلة العرض، خرج أحد الشباب المراهقين للمشاركة في الندوة المفتوحة التي أقمناها بعد عرض الفيلم. وكانت لغته الوعظية مقززة للغاية، رغم أن مظهره كان يميل إلى الحداثة والمعاصرة. قلت في نفسي حينها، ماذا يريد هذا الصغير من محاضرته الوعظية هذه التي لا مكان لها في الفن ولا في هذا المكان؟ إنه يفسر العمل السينمائي تفسيرًا وعظيًا يكاد يجعلني أتقيأ. هذا الشاب هو نفسه الذي وشى بأشرف فياض بعد تلك الليلة ببضعة أشهر، وكان جزءًا من المكيدة التي أوصلته اليوم إلى القتل.
وحين كان أشرف في المقهى الذي يسهر فيه بشكل يومي، وكان ذلك الشاب النزق ضمن المجموعة، بدأت بينهما مماحكة كان من الواضح أن الشاب النزق يفتعلها افتعالًا بشكل مستفز للغاية، حتى أوشك أشرف أن يعالج الأمر بيده. لكن الشاب النزق، الداعشي من الداخل، والدخيل على الفن والجمال، قد هدد أشرف حينها بأنه سيعيده إلى غزة! لقد جرح أشرف كما يجرح النسر حينها. وكاد يبكي دمًا لغبنه وحسرته على واقع لا يملك حياله أي شيء.
الحكم بقتل شاعر فلسطيني لاجئ بسبب كلمات قد نسي أنه كاتبها وصاحبها، لهو أمرٌ بالغ المأساوية والهزيمة
في اليوم التالي ، ولم يكن قد خطر ببال أحد أن ذلك الشاب كان جادًا في تهديداته. حتى اقتحمت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقهى. وقبضت على أشرف كما يُقبض على المجرمين. لكنه بعد يوم واحد، خرج من التوقيف بريئًا لعدم ثبوت الأدلة على تهمة نشر الإلحاد. لكن رجل هيئة الأمر بالمعروف الذي تولى هذه القضية هو نفسه يعمل محققًا في هيئة التحقيق والادعاء العام! في خلط رهيب بين السلطات يكشف لنا حقيقة الدولة التي هي داخل دولة! الأمر الذي جعله يدعو الشاب ويأمره بأن يتقدم بدعوى من قارئ تجاه ديوان أشرف، يتهمه فيها بالإلحاد وبالإساءة إلى الذات الإلهية، وهو ما حصل بالفعل.
حينها تم استدعاء أشرف بعد أشهر من الاعتقال الأول، من قبل هيئة التحقيق والادعاء العام في عسير. ومنذ ذلك الحين أودع أشرف السجن وتم حكمه غيابيًا وهو في السجن بالسجن والجلد، لكنه اعترض وطلب الاستئناف، ليأتيه الحكم صاعقًا قبل نحو أسبوع بحد القتل!
لقد أخبرني أشرف بشكل شخصي، أن الشاب النزق لم يكن يتصرف من تلقاء نفسه، بل كان هناك من يوعز إليه بذلك، وهو أحد رفاق أشرف الذين يعملون في مجاله الفني من أبناء المنطقة. ولكن هذه الاتهامات التي لا يمكن إثباتها، الآن على الأقل، يصعب الخوض فيها، وفي تفاصيلها وخلفياتها، غير أن الحكم بقتل شاعر فلسطيني لاجئ بسبب كلمات قد نسي أنه كاتبها وصاحبها، لهو أمر بالغ المأساوية والهزيمة. إنها هزيمة للكلمة، هزيمة للحرية، هزيمة للإنسانية، هزيمة للحق، هزيمة للجمال، هزيمة للعدل، هزيمة لكل القيم الإنسانية التي بلغها الإنسان في هذا العصر، هزيمة للأمل وللكلام.. هزيمة للشعر وللفن ولكل شيء..
وأنا، في هذه الهزيمة، لا أملك إلا أن أشعر بالمزيد من الحزن .. والعار.
اقرأ/ي أيضًا: