أثار ولا يزال كتاب "صراع الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي" لصامويل هنتنغتون منذ صدوره في تسعينيات القرن الماضي جدلًا واسعًا بين رافض لرؤيته ومتقبل لها حول العالم. وفي هذا المقال سأسعى لاستعراض أفكاره ومحاولة محاورته، استنادًا لرؤية المفكرين الفلسطينيين علي الجرباوي في كتابه "المعرفة، الإيديولوجية، والحضارة: محاولة لفهم التاريخ" عام 2021، وإدوارد سعيد في محاضرة له بعنوان خرافة صراع الحضارات عام 2013 في جامعة "ماساتشوستس"، مجملًا جزءًا من قناعاتي المتعلقة بذلك.
تتضمن أطروحة هنتنغتون ودعوته للغرب لصيانة "فرادته الحضارية" نوعًا من الاعتباطية وغير قادرة على تفسير منطق عمل العلاقات الدولية بعمق كافٍ لفهم طبيعتها ومصالحها المتشابكة
يرى الجرباوي أن أطروحة هنتنغتون ودعوته للغرب لصيانة "فرادته الحضارية"، واستشرافه بصدام حضاري على أسس دينية بشكل أساسي، وأن الحضارات المركزية التي تواجه الغرب هي الصينية والإسلامية تتضمن نوعًا من الاعتباطية وغير قادرة على تفسير منطق عمل العلاقات الدولية بعمق كافٍ لفهم طبيعتها ومصالحها المتشابكة. ويرصد الجرباوي ثلاثة انتقادات أساسية لهذه الأطروحة وهي "تعسفيتها باختزالها الصراعات بالاختلافات الهوياتية الثقافية الحضارية، واعتباطيتها التي عكسها تقسيمها العشوائي للعالم، وضعف قدرتها التفسيرية في سياق تفاعلات العلاقات الدولية خاصة أنها أهملت المصالح كمحدد في هكذا تفاعلات". وهنا يخلص الجرباوي إلى معارضة بتر التاريخ وتحويل الاعتقاد إلى حقيقة على قاعدة أن الحضارة الغربية حكم مؤبد لا تالي له، فكما جاءت الحضارة الغربية استمرارًا لما قبلها قد ترثها حضارات غير غربية لاحقة.
ويقول الجرباوي "إن هنتنغتون كان سطحيًّا ونمطيًّا في فهمه للإسلام، وانتقائيًّا في استعراض بواعث توتر العلاقة الإسلامية الغربية، مسقطًا منها الكثير من الاعتبارات التي تقع على عاتق الغرب، ولا يجوز أن يلوم عليها الإسلام أو المسلمين". ويضيف "ومع أن هذا الانتقاد كان صحيحًا في الجوهر، إلا أن البعض منه جاء متشددًا ولاذعًا في شنه لهجوم نمطي مقابل على الغرب والحضارة الغربية، وكان بإمكان هنتنغتون استغلال هذا النوع من الهجوم والاعتماد عليه كمثال يدلل على صحة أطروحته ودعواه".
أما المفكر إدوارد سعيد فاعتبر أنه وفي حقيقة الأمر وبالرغم من نهاية الحرب الباردة إلا أن هنتنغتون وكأنه يسعى إلى استمرار الحرب الباردة، ولكن مع أقطاب متعددة وليس قطب واحد، كما كان الحال عليه قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. والحفاظ على تغذية الرأي الأمريكي وتذكيره باستمرار وجود أعداء للهيمنة الغربية. وأن هذا الصدام سيكون آخر صدام بين الحضارات في العالم الحديث.
ووفقًا لسعيد، فإن هنتنغتون يسعى إلى التضليل في طريقة تناوله وتحليله لطبيعة العلاقة ما بين الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات، لا سيما الإسلامية والكونفوشيوسية. وأن الكثير من حججه تستند على أفكاره منقولة، وتقلل من التطورات الكبيرة في فهمنا النظري والمثبت لطبيعة الثقافات وكيفية تغييرها وما هي أفضل الطرق لفهمها واستيعابها. ويقدم سعيد نقدًا يعتمد بالأساس على أن هنتنغتون اعتمد في طرح أفكاره على الصحافة والدوغمائية الشعبية أكثر من اعتماده على البحوث والنظريات الأكاديمية الجادة. وهذا يعني أن الحجة تنحاز إلى الصدام ولا تنحاز إلى الفهم الحقيقي والتعاون بين البشر.
هنتنغتون يدعي أن الصراع في النظام الدولي خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتسيد الولايات المتحدة الأمريكية النظام الدولي هو "أحادي القطبية". ويرى أن الاختلافات في المرحلة التالية للنظام الدولي "أحادي القطبية" ستتمركز حول اختلاف الهويات الثقافية وتكون بين كيانات ثقافية متفاوتة ومتعددة التي ستكون هي الحضارات المتمثلة في الحضارات الصينية واليابانية والهندية والإسلامية والأرثوذكسية السلافية والغربية والأمريكية اللاتينية والأفريقية، ولكل حضارة دولتها المركزية إلا الحضارة الإسلامية، التي يعتبر أنه لا يوجد دولة رائدة لقيادتها نحو العالمية، ويمكن استعراض أبرز الدول المحورية في العالم الإسلامي التي من المحتمل أن تتنافس على مستقبل قيادة الأمة الإسلامية، وهي تركيا والمملكة العربية السعودية وإندونيسيا وإيران.
وباعتقادي أن أكثر ما هو ملفت في الموضوع أن هنتنغتون لعب دورًا أسياسيًّا فكريًّا وليس سياسيًّا فقط، وقدم أجوبة سهلة في قضايا معقدة وشكّل ما طرحه من أفكاره محاولة لإيجاد نموذج جديد لما بعد الحرب الباردة، وطرح رؤيته المرتكزة على فكرة أن الحروب القادمة لن تكون بين الأيديولوجيات بل بين الحضارات، مدعيًا أن الصراعات التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة انتهت لصالح نموذج آخر من الصراعات ستسود في القرن القادم.
وبرأيي أن أفكار هنتنغتون كانت واضحة حيث فهم إن أكثر ما يميز الحضارة على المستوى الأيديولوجي غالبًا ما يأتي من الدين، ومع ذلك يعترف أن الغرب يختلف عن روسيا فرغم أنهما ينحدران من حضارة واحدة إلا أن الأمور انتهت بهما إلى صدام تسبّب بشرخ بينهما. واعتبر أن الحضارات المسيحية الأوروبية تحوي مكونات عديدة. وهذا يقود بطبيعة الحال إلى حقيقة مفادها أن الحضارة الإسلامية العربية تحوي كذلك مكونات عديدة، الغرب ليس مركبًا واحدًا متجانسًا، والحضارة العربية الإسلامية ليست مكونًا واحدًا متجانسًا وإن بدت كذلك.
هنتنغتون كانت واضحة حيث فهم إن أكثر ما يميز الحضارة على المستوى الأيديولوجي غالبًا ما يأتي من الدين، ومع ذلك يعترف أن الغرب يختلف عن روسيا فرغم أنهما ينحدران من حضارة واحدة إلا أن الأمور انتهت بهما إلى صدام تسبّب بشرخ بينهما.
والجدل بشأن هنتنغتون تواصل بسبب المصطلحات التي استخدمها، إضافة إلى الطرق التي يرى فيها العالم، ومن النقاط المهمة في دحض فكرته استخدامه لمصطلحي الغرب والعالم الإسلامي، وأن رؤيته في اختزال الحضارات الـ 8 أبسط بكثير من أن تعكس التعقيدات الموجودة في العالم السياسي. لا يمكن الاتفاق على تعريف دقيق للحضارات لأن الحدود مائعة بين الحضارات، بمعنى أنه لا يوجد جدار فاصل بين الحضارة الآسيوية أو الحضارة الإسلامية، فالقيم الآسيوية دخلت في الحضارة الإسلامية وكذلك الحال، القيم الإسلامية دخلت في الحضارة الآسيوية. وأن ديناميكيات التحول الثقافي أعقد من الطريقة التي شخصها هنتنغتون، فلا وجود لحضارة مغلقة أو مقفولة.
وتقوم الحضارات من وجهة نظره على الأديان وبالنظر إلى الحضارات التي ذكرها في الكتاب ما يعني وجود فاعلين للدخول في صدام أو في تعاون، وهو بطبيعة الحال يرى عالمًا في غاية الصدام.
لكن من المهم أن ندرك اليوم أنه يوجد العديد من الحضارات داخل بلد واحد، كوننا نعيش في عالم بالغ التعقيد ومتعدد الألوان، حيث يوجد الكثير من الفاعلين الراغبين في المشاركة في تنمية المجتمعات الخاصة بهم، لذلك فإن تشكيل مشاهد فكرية منفصلة والتمييز بينها يلغيان فكرة التنوع، لأن التنوع هو الفلسفة الجوهرية لتطوير المجتمعات، وتحقيق التمازج الخلاق في مسيرة النهضة والتقدم.
مفهوم الحضارات القديم لم يعد ممكنًا، وهو يحاول أن يقول إن كل حضارة تقودها دولة أو دول محورية، فالحضارة الأرثوذكسية تقودها روسيا، فيما تقود الصين الحضارة الكونفوشيوسية، فيما تفتقد الحضارة الإسلامية إلى دولة محورية لقيادتها، وكذلك الحضارة الأمريكية اللاتينية ليس لها قيادة. وهذا بحد ذاته يقود إلى شيء من التعميم ولا يستند إلى معايير علمية دقيقة في تحديد الحضارات والتمايزات فيما بينها.
وبالرغم من أن الروح الكولونيالة موجودة بشكل مخفي تارة وبشكل صريح تارة أخرى، إلا أن تفكيره (هنتنغتون) ليس تفكيرًا استعماريًّا "نقليديًا". وهنا يرى هنتنغتون، أنه إذا كان لزامًا أن ندافع عن مصالحنا وثقافتنا وديانتنا في بلدنا فهذا معاكس للفكر الاستعماري، بالرغم من أهمية الدفاع عن النموذج الأمريكي وخاصة في مناطق نفوذ الولايات المتحدة، مع تفهم دفاع دول أخرى عن نموذجهم في مناطق نفوذهم وهذا مخالف لجوهر الفكر الاستعماري وفقًا لادعائه.
اتخذ هنتنغتون العنف حجة على لاديمقراطية الإسلام، واعتبر الحروب التي خاضها المسلمون عبر التاريخ عنفًا غير مبرر، مختزلًا الإسلام بالعنف والقتال، وأن العنف لا يتعلق بالمسلمين وإنما بالإسلام نفسه، وهذه هي الخطورة التي استند إليها كل التيار اليميني المحافظ فيما بعد مؤسسًا عليها أطروحة عنصرية مضمرة تارة ومكشوفة تارة أخرى. وهنا يستحيل على مصطلح واحد لتوصيف كل المسلمين في العالم، واختزالهم بتوصيفهم بـ "الإرهاب" أو "العنف" مثلًا.
المعضلة الأساسية في طرح هنتنغتون أنه تجاهل أثر القضية الفلسطينية، وما لحق بالفلسطينيين من ويلات كفيلة بتأجيج بعض التيارات الإسلامية وأخذه كسبب لمهاجمة الغرب "أمريكا
ويدعي هنتنغتون أن التيار الإسلامي سيشكل خطرًا في الغرب، لكنه في السياق ذاته لا ينتقد فرض الشريعة الإسلامية، ويقول إن المشكلة ستظهر في الدول الممزقة والغربية التي تضم عددًا كبيرًا من المسلمين الذين سيتأثرون بتعصب الحركات الإسلامية، وهو لا يقول: إن اعتناق الإسلام في الدول الإسلامية أمر سيئ، لكن المشكلة تكمن في مناطق الاحتكاك وفقًا لطرحه. مع القناعة التامة بأنه لا يمكن اختزال الإسلام في أيدي قلة قليلة من الجماعات العنيفة. واعتقد هنا من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هنتنغتون اختزل الإسلام في فترة تاريخية محددة متجاهلًا العوامل الأساسية التي دفعت إلى نشوء التيارات الإرهابية أو المتطرفة في العالم العربي والإسلامي، متجاهلًا الاستعمار الغربي، والتدخل الأمريكي في شؤون بعض الدول، بالإضافة إلى تجاهله للمصالح الاقتصادية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وجود "البترول".
وتعتبر المعضلة الأساسية في طرحه بأنه تجاهل أثر القضية الفلسطينية، وما لحق بالفلسطينيين من ويلات كفيلة بتأجيج بعض التيارات الإسلامية وأخذه كسبب لمهاجمة الغرب "أمريكا". ولا بد هنا من الإشارة إلى أن اعتبار اتسام الحضارة الإسلامية بالعنف دون غيرها أمر فارغ لا وزن ولا قيمة له، لأنه وبمراجعة سريعة وقراءة متأنية فإن الغرب جلب أكبر حروب على الإنسانية، لا سيما في الحربين العالميتين الأولى والثانية.