صديقتي،
إنها نهاية العام، عامي السابع والعشرين وليس العام 2015. ليلة أخيرة تفصلنا عن أعوام عديدة عشناها، يمكن أن أسميها الماضي، وأخرى ستأتي، كيف ستأتي؟ حسنًا، ربما سأعرف العام المقبل في شهر شباط/فبراير مثلًا، أكون فيه أكثر قوة.
شهر جميل، تبدأ فيه أمي بوضع عبوة من البلاستيك على أغصان شجرة العنب المقطوعة للتوّ، لتجمع ماءها العذب. ماء أغصان العنب. هل تصدقي أن هذه العادة الشباطية متوارثة عن جدتي عائشة لتحافظ على شعر بناتها ضياء وعطاف وعواطف من أي سوء. فطنت أمي لهذه العادة بعد زمان، بعد وفاة أمها. تمامًا كما يحدث أن أفطن لكل شيء الآن، والفرق أنني أعيش بعيدًا عن أمي، عن حضورها المشوب بالدفء والأمان.
إنها نهاية العام. أمضيت ليالي كثيرة مؤخرًا كلما ذهبت إلى فراشي في بيتي المستأجر من السيد "إكس"، وسط المدينة، عن لماذا أنا هنا؟ أقصد طنجة. ربما أسبب لك قلقًا وأنت تقرئين سؤالي عن لماذا. أعلم أنك تتابعين أيامي، وتسمعين أخباري عبر برنامج "السكايب"، ولكن لا تقلقي، إن الوقت وأحيانًا الملل، وأحيانًا الضجيج يفرض عليك أسئلة ملحة، وأنت تنامين في بيوت غريبة تسألين، وأنت تشترين الخبز الغريب تسألين، وأنت ذاهبة لاستلام بطاقتك الإقامة تسألين، ولا تكتفين، تتوجه الأسئلة نحو مشاعرك. تتصارعين معها. ماذا تريدين أن تظهري، وماذا تريدين أن تخفي! قرأت من يومين أحد علماء النفس يقول أنه فسيولوجيًا وسكيولوجيًا أن تظهر الكذب أو الصدق أمر صعب، وشرح مطول بالإنجليزية، مررت عنه بشكل سريع.
لا بأس. قد تسألين عما أقصد عن الصراع. وهذا يحيلنا إلى تعريف ومعرفة أنفسنا بشكل جيد. الشكل الجيد هو المعضلة. كيف نعرف مشاعرنا ونعرّف بعدها بأنفسنا. في رواية "سبوتنيك الحبيبة" للياباني هاروكي موراماكي يقول على لسان الرواي في الصفحة (76) "أجد صعوبة في الحديث عن نفسي. أتلعثم دومًا في العبارة السرمدية المنطوية على تناقض ظاهري (من أنا؟). مؤكد أن أحدًا لا يعرف معلومات تامة عني أكثر مني. لكن حين أتكلم عن نفسي تحيلني كل أنماط العوامل الأخرى -القيم، المعايير، قيودي الخاصة كملاحظ- إلى الرواي الذي يختار ما يروق له ويتغاضى عما لا يروق له. كثيرًا ما أزعجني التفكير أني لا أقدم صورة موضوعية عن نفسي". وشرح طويل، أدى بي إلى جملة حكيمة يقول فيها "ما أود معرفة المزيد عنه هو الواقع الموضوعي للأشياء الكائنة خارجي. ما أهمية العالم الخارجي بالنسبة لي؟ وكيف أحافظ على حسن توازن عبر التوافق معه. هكذا يمكنني أن أصل إلى فهم أوضح لما أنا عليه".
أختزل هذا الصراع وتلك الأسئلة حتى حدود الصباح، ومع الفجر أجعلها تتنحى أمام جملة "الإقبال على الحياة"، أود أن أبتسم، تذكرت للتو أن كلمة "الإقبال" ستسمعينها بالمغرب كثيرًا، خاصة كلمة "أقْبل علينا"، ويقولها أهل البلاد إن أحللت عندهم ضيفة ويعتقدون أنهم لم يوجبوك بشكل فاخر. وتحت وطأة هذا الاكتشاف سأقبل، وأرضى بالمدى الذي تتيحه لي الحياة يوميًا. يحتاج الأمر للشجاعة، والتقليل من فعل اللطف تجاه يومك وما يمرّ فيه من بشر وأحداث. ظللت ثلاثة أعوام تقريبًا سجينة المقارنة بين موطني الأصلي وبين مكان إقامتي الجديد. كان عليّ أن أكف عن المقارنة، وكل ما ألبستني إياها تعاليم الجدات والأمهات والجامعات والواقع هناك، أن أخلعه هنا، أتعرى وألبس أشياء جديدة تليق بالمكان والزمان. مرة كتبت عن الإنسان المركب ببضعة أسطر على صفحتي على الفيسبوك، ربما لاحظتها، وربما لا، ولكن الفكرة متشابهة، فعل التعري والتركيب يلزماننا، ويتناسبان مع شخص غريب.
صديقتي العزيزة، وأنتِ تدرسين في جامعة "إكس-مارسيليا" وتتابعين هناك دراساتك العليا في الحقوق، ربما تعيشين الحالة نفسها. أعتقد أننا خرجنا من نفس الثقافة تقريبًا، ونواجه ثقافات جديدة، ومختلفة نوعًا ما. لعلّي لا أريد إزعاجك في هذه الرسائل التي تصلك من "زمان مغلق كبريد الأحد". ههههه، كم أنا سعيدة بهذا العنوان. مجازي وجميل، يطوي سكون أيام الآحاد بداخله، يطوي سكوت روائي مغربي صاحب هذا العنوان واسمه عبد السلام الطويل.
نعيش معًا بنفس المدينة، لم نتقابل أو نتحدث بعد. أتشوّق لرؤيته بعد أن قرأت له نصًا مأخوذًا من عمله الأخير "اختطاف الغابة". أعني أنني متشوقة لقراءة أعماله ثم لقائه. ذهبت لدار "سليكي أخوان" المطبعة التي تتولى نشر أعماله، ولم أعثر عليها بالأمس. ولكنني سأعود. وستكون بداية العام مع قراءتي له والبحث عنه. قال لي أحد الأصدقاء أنه تعرض لموقف احتيال صعب واستلب بيته بالقوة منه. يا لهذا القبح. لعلك تدركين الآن فعل التركيب الذي أعنيه عزيزتي. لا تفكري به الآن، واقرئي ببطء ما يلي، منذ فترة وأنا أفكر كم أن حياة الصحافي بائسة، إنه يقتات من بؤس الناس الآخرين وحكاياهم. لعلّ الأمر لن يعجب الكثير وسيقول إننا نميل لهم ونعبر عن أصواتهم. من نحن كصحافيين؟ من أنت وأنت تعيش الظلم والظلم يمارس عليك. نحن نحقق أمجادًا باهتة باسمهم ونحن نتصرف كالبلهاء عندما نرفق قصصهم على صفحاتنا، نتباهى فقط. ما أسوأنا يا عزيزتي. البؤس يعيش على أرصفة المدينة، ننظر إليه ونتعالى عنه. نحن مقيتون بأنانيتنا وبهرجتنا التي تساوي "قشرة بصلة" كما نقول.
لعلّي لا أريد إزعاجك وأنت تقرئين هذه الرسالة الطويلة التي تأخذك إلى عوالمي وعوالم المدينة المتوسطية التي أعيش فيها. أقبل على الحياة، هذا ما أود قوله، أنني لدي شعور الاستعداد لكل شيء. الأشياء التي تخلت عني وتخليت عنها، العلاقات التي ذابت لشدة ضعفها، المدن، البيوت، القلوب، النفوس التي دخلت إليها وخرجت منها، وهذا الخروج جعلني أعود إلى بيتي كل يوم وحيدة، أسكن في البيت، أسكنه بشدة مع الموسيقى وإعداد الطعام وكلام قليل من الحب، وقليل من الكتابة. حاولت الخروج مرارًا وأن أعيش حياة المدينة الليلة، جربت أن أشرب الكوكاكولا في مطعم-حانة شبابية جميلة ولطيفة تقع في بوليفار المدينة.
ذهبت يومها مع صديقتي نمضي وقتًا ونتحدث إلى أصدقاء جدد، نجرب طريقة الأحاديث ونتعرف على تصورات الآخرين نحو الحياة، كنت أبحث عن حميمية ما، ولكنها سقطت في كلام الترحيب، سقطت كلما نظرت إلى صاحب الحانة وهو لا يدور بوجهه ناحيتي لأنني أرتدي الحجاب. تتحول الأحاديث من السياسية إلى الدين والاختلافات وعن طنجة والإمكانيات التي فيها، وصولًا إلى الجنس. كنت أجلس على الطاولة مع صديقتي وأشخاص تعارفنا عليهم في نشاط نظمته مكتبة "الأعمدة" واتفقنا أن نلتقي بذلك المطعم، حتى صرّحت إحدى الحاضرات عن استغرابها من المرأة التي تصل سنّ الثلاثين وهي لم تمارس الحب بعد. لم أفهم كلامها تمامًا بالفرنسية ولكن صديقتي ترجمت لي لاحقًا إلى الإنجليزية. تعرفين أن قدراتي بالفرنسية لا زالت بالبداية. أتلفني سؤالها المبهم، استغرابها المزيف. لا أدري ماذا تعتقد! فكرت لو كنت أعرف الفرنسية ماذا سأجاوبها أو أناقشها. لعلي لا أريد الخوض مليًّا بسؤالها. لو قدمتي لزيارتي لتناقشنا فيه بمشوار هادئ على شاطئ المدينة، واشترينا بذور عباد الشمس، واستمر نقاشنا حتى مغيب الشمس.
ربما أطيل عليك يا عزيزتي، ولكنني مؤخرًا أفكر بأمي كثيرًا، أتذكرها تمشي في ساحة بيتنا القديم. آه لم أخبرك أنني حصلت على صورة لذلك البيت باللونين الأبيض والأسود وتعود إلى ما قبل نكبتنا. مبني في أعلى التلة، حتى حظي بمكانة الارتفاع دائما، كقلعة عالية. سمعت مرة من أخي أن السلطان العثماني عندما كان يأتي للبلدة كان ينزل به. أوّد لو ترين الصورة. سأرسلها لك في بريد آخر، أحدثك بها مطولًا عن ذلك البيت وعن الحديقة المجاورة له. لا تتصوري بالغ سعادتي بالأمر.
أتذكر والدتي وهي تصنع لنا الصابون البيتي من زيت الزيتون. كانت تحضر برميلًا حديدًا متوسط الحجم وتسكب فيه غلن أو اثنين من الزيت ثم تضيف مادة كيماوية بيضاء، وتحركها باستمرار على نار الحطب حتى يغلي ويبدأ بالتماسك، لحظتها كانت تدعو أحد إخوتي ليساعدها في حمله ثم تصب السائل في مصبّ خشبي مغطى بالبلاستيك. تنتظر يومين حتى يجمد ثم تقطعه إلى قطع صغيرة على شكل مربعات شهية للاستخدام. ثم نحن الإخوة نبدأ بمحايلة أمي حتى نستخدم القطع الجديدة، ونتحجج أن القديمة لم تعد نافعة. الصابون الجديد، ناصع البياض، وطريّ ويرغي كثيرًا. أشعر وكأن كلامي دعاية، ولكنه حقيقة. حقيقة الأيدي التي تصنع لنا البيوت.
أفضّل عن أن أتوقف عن الحديث عنها، أمر التذكر ليس يسيرًا كما تعلمين، يحتاج كل طاقتك النهارية، والآن أود الخروج إلى المقهى القريب وأستمّر في عملي الصحفي اليوميّ. أشعر بالخمول أو الكآبة منذ فترة. لعلّ قهوة المكان تبّدل كفيّ، وتساعدهما على إنهاء المواد المؤجلة التي ينتظرها المحرر مني منذ أسابيع. مؤجلة لأن الفكرة لم تبدأ بعد. صدقيني الأمر ليس سهلًا أيضًا، كأنك تعجنين الهواء. عليّ ألّا أسلّم مادة عادية. لماذا أضع اسمي على مادة عادية؟ هذا بؤس أقدمه للعالم. أتذكر حالة سوماير في "سبوتنيك الحبيبة" التي توّد أن تصبح كاتبة ومعاناتها في كتابة المقدمة تلو الأخرى وحذفها. أهم شيء في الكتابة هو القناعة. أما البداية فيها فهي أزمة.
عزيزتي، وصلت المقهى. يسمى Passion rêve، يبعد خمسة دقائق عن بيتي الكائن وسط المدينة. يطل المقهى على المرسى القديم والمدينة القديمة، ولك أن تتأملي الإعمار السريع الذي سيعطينا مدينة (عصرية) عمّا قريب.
لحظات المقهى طويلة، وجلوس النساء فيها مثير للتأمل، وتأملاتي طويلة أيضًا. هنا، تنتهي رسالتي الوحيدة لهذا العام. سأحاول أن أتمنى لك هذا المساء شيئًا، لعلّ أمنياتنا بمدننا البعيدة أفضل ما نفعله طوال بقائنا فيها. وإذا غفلت، سأكون أخوض معمعة ترتيب كتبي وملابسي لأنتقل إلى بيت آخر في قصبة المدينة.
وصالوفا، طنجة
اقرأ/ي أيضًا: