كلما جاء الصيف ارتفعت السماء مرةً أخرى، فهنا، في شمال الأرض، حيث تُسجّل الغيوم الداكنة حضورًا يوميًّا، تبدو السماء واطئةً بشكل خانق، حدّ شعور كلٍّ منا بوجوب دفعها بالأيدي نحو الأعلى قليلًا، كي نُخفف من ضغطها على الأدمغة والأمزجة.
ربما لا يشعر من ولدوا هنا بكل هذا، فالاستثنائي بالنسبة لنا نحن القادمين من بلاد الشمس هو المألوف اليومي بالنسبة لأهل المكان، ولهذا لن يشعروا بما نشعره من كآبة تتسبب فيها الغيوم دائمة الإقامة فوقنا، وبالشحوب الداخلي الذي يجعل الأيام تمرّ علينا فظةً وثقيلةً، لأننا لا نستطيع أن نفهم أنَّ غياب الشمس أمر طبيعي، بل ثمة مكروه وراءه، كأنْ تكون مُختَطفةً وخاطفوها الذين يرفضون الإفراج عنها يتسلون بتعذيبها. أو أنّها، في سيناريو آخر، أصيبت بالاكتئاب وأنهت حياتها.
نعرف أن الصيف الذي يلعب دورًا مهمًا في دورة الحياة لا يفعل ذلك وحده، بل بالتناغم مع الفصول الأخرى، ولهذا لا نقبل بوضع الصيف على طرف نقيض مع الشتاء
من أجل ذلك حين يأتي الصيف تعلو السماء، وحين تعلو تزداد الانفراجة القدرية علينا، خصوصًا أن ضوء الشمس يعود إلى ممارسة عمله المعهود منذ فجر الخليقة، ولهذا يغدو العالم احتفالًا.
والسماء زرقاء حقًّا، وعالية جدًّا، وتمتد بلا حدود، تخيّلوا أن يضطر الإنسان للعيش في ظروف تدخله في شكٍّ حيال هذه البديهيات!
تخيّلوا تعاسة من ينسى الألوان، ويقال أنفه من مهنة التواصل مع العالم شمًّا، ولشهور طويلة تكتفي أُذناه من الأصوات كلها بصوت الرياح والأمطار! وتخيلوا حجم البهجة التي يصاب بها عندما تستعيد الحواس المُعطلة وظائفها الحيوية، وتعمل في تناغم نادر مع كلِّ جسدٍ حيٍّ لإنسان أو حيوان أو نبات، ولأننا نشعر مثل أسلافنا القدماء أن الحياة تولد من جديد يغدو العالم احتفالًا.
وهذا الوعي الجمعي الذي يجعلنا نشعر بالرحلة أكبر منا لأنه يعيدنا إلى الارتباط الخاص، والعميق جدًّا، مع العالم، ومع كل من فيه. فنرى في كل شبر من التراب، وعلى كل غصن مورق، وفوق وتحت كل تجمع أو مجرى مائي.. ابتهاجًا شاملًا، وما من جسد حي لا يشارك في صناعته.
نعرف أن الصيف الذي يلعب دورًا مهمًا في دورة الحياة لا يفعل ذلك وحده، بل بالتناغم مع الفصول الأخرى، ولهذا لا نقبل بوضع الصيف على طرف نقيض مع الشتاء، مثلما لا نقبل بذلك مع الليل والنهار، والضوء والظلام، فهذه الثنائيات لم تعد تصلح للاستعمال في تفسير بعضها البعض، لأنّ ذلك تأكيد على أن الحياة مقتصرة على موسم واحد فقط، وهذه مغالطة كبرى لأن الحياة حياة على طول الخط، وباختلاف الأوقات والمواسم والفصول، لكنها تكتسب هذه البهجة في الصيف لمّا فيها من خفّةٍ تحرّرنا من الملابس الثقيلة إلى حدود العري، وتعيد علاقتنا الجسدية مع العالم إلى مراحل ما قبل البيت والسكن.
لطالما تعبّد القدماء وقدموا القرابين لأنهم يريدون للصيف أن يأتي، ولشدة ما كانوا يخافون في الماضي من أن يخذلهم ولا يأتي، ولذلك معنى واحد ووحيد بحسب تصورهم هو الموت والفناء والنهاية.
مع أن الصيف نفسه يحدث كل سنة بالطريقة نفسها، إلا أنَّ فينا من البراءة ما يجعلنا نعيد المشاعر نفسها كل سنة، بدءًا من الإصابة بالذهول من جمال ما يحدث حولنا، وصولًا إلى انتمائنا الجسديّ له.
الصيف كلام. والكلام مباح من حولنا، إنه على الشجر، وفوق السماء، فكل شيء يتكلم معنا. الدنيا تتحول إلى فم بشفتين لا تتوقفان، ونحن نتحول بالمقابل إلى أُذن تُصغي. وما أجمل ما نسمع! وما أكثر ما نطرب!
منذ الربيع نترقب البراعم على الأزهار يومًا تلو آخر، نُحصي فراخ البط التي انضافت إلى الحياة في البحيرة القريبة من منزلنا. نرصد تحولات الأشجار وألوانها. كأنّ كلًّا منا هو الإنسان في أيامه الأولى على الأرض.
لأنّ كل شيء ينمو ملوّنًا وواضحًا، ولأّن العجائب تحدث أمامنا بشكل عادي للغاية، يتعمّق شعورنا بالقرابة مع الطبيعة، ويعود السحر إلى العالم من جديد.