بين الواقع والخيال/الأحلام هناك عالم بأكمله، ملامحه مرسومة بدقة وحساب، لا تستطيع أن تغمض عينيك وتتجاهله، ولن تستطيع الوصول إلى ماهية هذا العالم الذي أسميه "عالم ديفيد لينش المتخيل". يفسر البعض أن أجواء الغموض والجريمة تسيطر على ديفيد لينش منذ طفولته باعتبار أن نشأته كانت في مقاطعة "ميسولا" في ولاية "مونتانا" الأمريكية والمشهورة بكثرة الجرائم فيها.
أخذنا ديفيد لينش في أفلامه إلى رحلة لعوالم غرائبية تبدأ من حياة شخصياته الطبيعية لتغوص في أعماق أكثر جنونًا
لكن ما أراه أن موهبة ديفيد لينش الفنية، ولوحاته التي تنتمي إلى المدرسة السريالية هي العامل المؤثر في أفلام لينش ورؤيته الفكرية والبصرية والفنية لما يقدمه لنا من سينما مختلفة، طور بها لغة الأفلام السريالية، وصنع مفردات خاصة بهذه اللغة لا تنتمي لأحد سواه.
إن ظهور السريالية كحركة فنية في العشرينات على يد سلفادور دالي ولويس بونويل كانت تعبر عما هو خفي في اللاوعي البشري، وتجرد الواقع من كل حقيقة وكل منطق وتخلطها بالأوهام والأحلام.
اقرأ/ي أيضًا: أكثر من 10 أفلام استوحى منها Game of Thrones
هذه هي الحركة الفنية التي تأثر بها ديفيد لينش (1946- ) فيأخذنا في أفلامه إلى رحلة لعوالم غرائبية تبدأ من حياة شخصياته الطبيعية لتغوص في أعماق أكثر جنونًا، يتسق هذا تمامًا مع جملته الشهيرة "أحب أن أتوه في عالم آخر"، ليعيش رحلة طالما تمنى عيشها، لا تخلو من الإثارة ولا تقترب من الواقع.
في فيلمه الطويل الأول "Eraserhead/رأس الممحاة"، وفيلمه الثاني"The Elephant Man" اختار أن يكون تصويرهما بالأبيض والأسود ليقربنا بصورة أو بأخرى من أحلامنا التي تنعدم فيها الألوان، لكنها مليئة بالتشوهات والغرائبيات.
بدأ تأثر ديفيد لينش بالمدرسة التعبيرية وبلوحات الفنان التشكيلي الإنجليزي فرانسيس بيكون، الذي رسم العديد من الوجوه والبورتريهات الشخصية لنفسه والتي كانت تتميز بالتشوهات وتبعد كل البعد عن الجماليات المعتاده في المدرسة الكلاسيكية في الفن التشكيلي.
أسلوبية ديفيد لينش تفرض علينا التماهي مع أفكاره، واللهث وراء سرده السينمائي الذي لا يسير على نمط تقليدي، بل يترك لنفسه الحرية التامة في تقديم الفكرة وتطويرها، وتداخل العوالم في بعضها واستكمال الحكايات مع تبديل دور الشخصيات دون أن يؤثر ذلك في منطقية الأحداث بل يحول أمامك كل شيء لصورة غير معقولة لكنها ممتعة ومشوقة، ويعتبر فيلم Mulholland Dr. خير مثال على ذلك.
وفي فيلمه الرابع Blue Velvet الذي يلازمه الغموض حتى آخر مشهد، يبدأ الفيلم وينتهي بمشهد لأذن بشرية ملقاة في الحديقة وتخرج منها الحشرات، هذه الأذن هي أصل الحكاية.
يبدأ فيلم ديفيد لينش الرابع Blue Velvet وينتهي بمشهد لأذن بشرية ملقاة في الحديقة وتخرج منها الحشرات، هذه الأذن هي أصل الحكاية
ويعتبر هذا ملمحًا من ملامح تأثر ديفيد لينش بالسريالية، فيذكرنا هذا بمشهد اليد في أول أفلام سلفادور دالي وبونويل "كلب أندلسي/ An Andalusian Dog" الذي صور يدًا بشرية تخرج منها الحشرات والديدان.
لم يتوقف تأثر ديفيد لينش بالفن في أعماله -حتى يومنا هذا- وتأثره أيضًا بمهوبته الفنية فهو أيضًا فنان ويمارس مهنة الرسم والعزف الموسيقي في أوقات فراغه، لذلك نجد هذا التأثر مطبوعًا في مشاهد ديفيد لينش التي لا تنقطع عنها الإضاءة الزاهية والألوان، والموسيقى التصويرية التي تعتبر جزءًا من الحكاية التي ترويها الأفلام.
في الموسم الأخير من مسلسله الأشهر Twin Peaks -الذي يعرض الآن- لا يزال شبح بيكون يطارد مخيلة ديفيد لينش في العديد من المشاهد التي يصورها، هذا بالإضافة إلى شبح جديد بدأ يظهر في المسلسل للفنان الأمريكي إدوارد هوبر فحول لينش عددًا من لوحات هوبر في المسلسل إلى مشاهد حية أضفى عليها طابعه الخاص.
إن ظهور السريالية كحركة فنية في العشرينات على يد سلفادور دالي ولويس بونيل كانت تعبر عما هو خفي في اللاوعي البشري
إذا أعدنا النظر في مفهوم الفن بشكل عام، لوجدنا أنه كل ما يؤخذ من الحياة الواقعية بحيث يتم صياغته وإعادة تشكيله بطريقة جديدة وليس فقط المضاهاة، كذلك الحال بالنسبة لسينما ديفيد لينش الذي لا يتعامل مع الواقع المجرد وينقل صورته دون إضفاء تأثير، لكنه يقوم بإعادة خلق لهذا العالم الذي يحلم به وبتشكيل ملامحه، فيوظف أدواته ليخلق أبعادًا أخرى للطرف المشترك بين الواقع والخيال، وهو الإنسان، أصل الحكاية.
اقرأ/ي أيضًا: