شكّل صعود العملات الرقمية المشفرة حدثًا فريدًا في العقد الماضي. فالتكنولوجيا الأم (البلوك تشاين أو النقش التشفيري اللامركزي)، نجحت في خط مسار تصاعدي محمول على رافعة خطاب خلاصي تمتزج فيه نزعتان مؤسستان، واحدة ليبرتارية تقدم حرية التملك الفردي واستبعاد تدخل الحكومات على ما عداهما، وأخرى أناركية ترى في هذه التكنولوجيا آلية مناسبة لمجابهة نزعات الاستغلال في الليبرالية والبعد القمعي للاشتراكية.
شكّل صعود العملات الرقمية المشفرة حدثًا فريدًا في العقد الماضي. فالتكنولوجيا الأم نجحت في خط مسار تصاعدي محمول على رافعة خطاب خلاصي تمتزج فيه نزعتان مؤسستان، واحدة ليبرتارية وأخرى أناركية
هذه الموجه الصاعدة وصلت إلى ذروتها مع وصول سعر بتكوين، وهي إحدى أكبر العملات المعتمدة على تقنية بلوك تشاين هذه، إلى ما يناهز 65000 $ في العام الماضي. وتبعها تقلبات كبيرة في سعرها التداولي خلّف خسائر فادحة في الاستثمارات. غير أن هذه العملات الرقمية، والتي هي في الأصل عمليات رياضية محوسبة معقدة لا ترتبط بأي سلم قيمي اقتصادي تداولي في النظام المالي، كانت قد اكتسبت قيمتها بناء على سمعة تقنية تجديدية وسياسية.
أمان النقش التشفيري اللامركزي وصعوبة اختراقه، مثّلا تغييرًا جذريًا، أظهره، أي النقش التشفيري اللامركزي، كبديل عن تقنيات التواصل والتحفيظ التي كانت سائدة في مجال تقنية المعلومات. كما أن نظام توزيع المحفوظات بالتوازي على الشبكة المتسلسلة جعل من إمكانية الاختراقات السيبرانية، ومن سيطرة أجهزة الدول المركزية عليها أمرين بالغي الصعوبة. هذا بالإضافة إلى اشتراط عملية التوقيع والتصديق للتمكن من إدخال المعلومات إلى السلسلة. وهذه عملية حسابية معقدة، يقوم بها المعدّنون، عبر إجراء اختبار فك تشفير يتم من خلاله التأكد من صحة البيانات المضافة وعمليات التحويل المالي بين المحافظ الإلكترونية. ويدخل في هذه العملية أيضًا نظام تصويت إلكتروني بين المعدّنين يكرس التعامل بنظام ديموقراطي تعاوني بين مالكي الخوادم المشكلة للشبكة.
وهذه النزاهة السيستيمية الكامنة والتوزيع الديمقراطي للقرار، والبنية الموزعة اللامركزية للشبكة، وبالتالي ابتعادها عن براثن السلطات المركزية، حاكت قيمًا اجتماعية وسياسية يتشاركها جمهور عريض من اليمين واليسار في العالم. وهذه السمات وضعت هذه العملات الرقمية في مقام صناعة القيمة، وبالتالي أكسبتها صفة تمثيلية إيجابية، وجعلت منها آلية تداولية، كخيار مواز وبديل عن الذهب والمشتقات المالية وسائر الأصول. وبهذا فتحت هذه العملات شهية التملك الفردي وشراهة رأس المال التوظيفي التكاثري، فدخلت هذه العملات دورات المضاربات في خط ارتفاع قيمي تصاعدي، مؤججة بخطاب إيجابي تفاؤلي تبشيري خلاصي، طغى إيقاعه على عناوين النشرات المالية والفضاء التقني والأخبار العالمية.
والحال، خلقت هذه العملات الرقمية لحظة مفصلية متوهجة في فلسفة الحتمية التقنية، وشكلت مساحة تجديدية تتقاطع فيها تيارات اجتماعية وسياسية ومالية، ووصلت قوتها التصاعدية وجاذبيتها إلى السيطرة على مفاصل اقتصاد المستخدم، وقيادة خطاب خلاصي تبشيري مواكب ومساند لخطاب التقنيين الجدد، كإلون ماسك، الذي قدمها كإحدى الأدوات التقنية والاجتماعية في مشروعه للهجرة من كوكب الأرض، كما شكلت الأفق الطبيعي لتوسع الإنترنت واقتصادها إلى فضاءات بديلة افتراضية كالميتافرس وويب 3. 0، على ما وشت به أدبيات شبكة أوثيريرم التي أسسها غافين وود.
غير أن هذه الحرية التقنية المستقلة عن رقابة الحكومات وسلطات التشريع، جعل منها ملجأ لعمليات غسيل أموال وتمويل نشاطات مشبوهة. فاستخدام بيتكوين كعملة أساسية على موقع سيلك رود، الذي أنشئ في 2011 كأول سوق سوداء الكترونية، محجوبة تقنيًا عن محركات البحث وتتيح دخول المستخدمين الراغبين إليها عبر تقنيات تور التصفحية المموهة، أدى إلى ازدياد العمليات غير القانونية كالاتجار بالمخدرات والسلاح وغسيل الأموال وغيرها من الجرائم. ما حدا بالسلطات الفدرالية الأمريكية على اتخاذ قرار بإقفاله عام 2013، وسجن مؤسسه مدى الحياة.
لكن ردود فعل المشرعين وأجهزة الدولة المالية والقضائية اكتنفها التقلب والحيرة والترقب، على امتداد الزمن الممتد من ولادة هذه التقنية حتى الأمس القريب. فالمشرع يجد نفسه، مع كل اختراع تقني جديد، في موقع المترقب والمشاهد. ذلك أن مسألة حداثة الاختراع تتمركز في جوهر التكنولوجيا وتشكل رافعة لسطوتها. فالجديد الذي تحمله التقنية يفتح آفاقًا اجتماعية واقتصادية لا يمكن للنص القانوني أن يلتقط حدودها ويعين مآلاتها مباشرة، وبالتالي، يضطر المشرع أن يتركها تنمو عبر آليات السوق لاستبيان مخاطرها وسبل ضبطها. وبهذا تتسلح التكنولوجيا الصاعدة بخطاب حتمي إيجابي تغييري واحتفالي وبحرية واسعة في زمن تصاعدها وقبل استقرارها، خارج براثن النص القانوني، وما أن تبدأ بتحدي مرتكزات سلم قيم الاجتماع والاقتصاد والسياسة المعمول بها، حتى يتسلح المشرع بالأضرار الناتجة عنها ويبدأ بتطويقها.
خطاب التدخل الحكومي هذا بدا جليًا وجديًا مع بدء التقلبات الحادة في أسعار العملات الرقمية، معطوفًا على استعمالها في مدارات الأفعال الجرمية، وتهديد سلطة الدول، والتلاعب بقيمة العملات التي تصدرها المصارف المركزية. فالهند مثلًا، منعت التداول في عملات الكريبتو عام 2018، وسط تخوف من لجوء ذوي الدخل المحدود إلى تحويل مدخراتهم استثمارات في العملات المشفرة، وما قد ينتج عن مثل هذا الجنوح من خسائر فادحة نتيجة التقلبات العشوائية لأسعار هذه العملات. غير أن التصاعد التداولي لهذه العملات والقيمة الاقتصادية التي تضيفها المحافظ المشفرة، دفع المشرع لاحتوائها تدريجيا، ففرض ضرائب عالية تصل إلى 30 % على إيرادات المضاربات. ومن ثم أعلن المصرف المركزي خطة للبدء بإصدار عملة وطنية إلكترونية هندية منافسة. ولدوافع مشابهة قامت الصين أيضًا بمنع التعدين وتداول هذه العملات. وأعلن المصرف المركزي الصيني أنه باشر بإصدار اليوان الرقمي وهو الآن في طور التجريب المحدود في بعض المدن. وفي السياق نفسه صرحت جانيت يالن وزيرة الخزانة الأمريكية أن الدولار الرقمي قد يصبح عملة موثوقة بمستوى الدولار الورقي. وأردفت أن اللغط الدائر حول تشريع صناعة الكريبتو هو أمر طبيعي إذا ما تعلق الأمر بتكنولوجيا تحولية، مشيرة إلى التغييرات التي تحدثها هذه التقنيات في الاجتماع والاقتصاد. وعلى هذا الغرار، أعلن ريشي سوناك وزير المالية البريطاني أن المملكة المتحدة تطمح لبناء مركز عالمي حاضن للتعدين المشفر تحت إدارة صك العملات الملكية وبتعاون وثيق مع هيئة الرقابة المالية البريطانية.
مع بدء الحرب الروسية على أوكرانيا والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا، بدا كما لو أن آخر قلاع ليبرتارية الكريبتو تواجه انهيار حصونها
مع بدء الحرب الروسية على أوكرانيا والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا، بدا كما لو أن آخر قلاع ليبرتارية الكريبتو تواجه انهيار حصونها. إذا رأت هذه الحكومات، والأمريكية بينها على وجه الخصوص، في هذه العملات ملجأ طبيعيا لرؤوس الأموال الروسية الهاربة من العقوبات، فأصدرت قرارات تدعو المحافظ المشفرة بالتدقيق في حسابات المنتسبين الروس وإقفال حسابات من تشملهم العقوبات. ومن المثير للانتباه، ردة فعل براين أرمسترونغ، المدير التنفيذي لـ كوين بايز إحدى أكبر منصات العملات المشفرة، إلى الإعلان بداية أنه لن يقفل الحسابات عشوائيا، في نوع من الاعتراض على قرارات الحكومة الأمريكية، لكن تقارير إعلامية لاحقة أشارت إلى أن كوين بايز قامت بإقفال 25000 محفظة مشفرة مرتبطة بأفراد ومؤسسات روسية.
بهذا التطويق التام لصناعة العملات المشفرة تطوى صفحة مثيرة من صعود هذه التكنولوجيا منذ انطلاقها في عام 2009، وصولًا إلى وتشكيلها حركة اجتماعية وسياسية شغلت كافة قطاعات الاجتماع والرأي العام العالمي، باعتبار أنها خيار حر ومستقل عن مركزية الدول. ما طرح تساؤلات كبيرة وكثيرة حول مفهوم سطوة الدولة وسلطانها وقدرتها على التدخل والقمع والتعسف. غير أن تسلط الدول في ما يبدو ما زال "أفضل الموجود" لتشكيل نظام تأمين على حياة وممتلكات البشر. ورغم سلطاتها القمعية إلا أن هذه السلطة ما زالت ضرورية لضبط آليات صناعة القيمة.
العملات والنظام النقدي يدخلان في صناعة الصالح العام عبر بناء وحماية محفظة قيم اجتماعية واقتصادية وأدوات تبادلية أمينة. وعليه لا بد لهذه المحفظة وتلك الأدوات أن تتحلى بالمتانة وبإمكانية الانتقال والقسمة المدققة، وأن تنتظم في سياق تماثلي وأنظمة إمداد مقبولة ومُتشاركة بين أعضاء محددين، ناجزي الهوية ويحتكمون للقضاء. لهذا فإن جموح عملات الكريبتو الليبرتاري عن مركزية الدولة هو نوع من جموح الخيال التقني الذي غالبا ما يسيطر على العقل التكنولوجي، وينجح غالبًا في إحداث فجوة تغييرية في أنظمة الراهن، ولكنه سرعان ما يتم لجمه بواسطة سلطة الصالح العام المسيطرة على مباني الدولة الحديثة.