أحلم أن أعيش في مدينة تشبه بغداد ألف ليلة وليلة. وجه الشبه الذي أنشده هو حيادية أحيازها العامة وبكمها. في مقابل سخاء أحيازها الخاصة وتنوعها المفرط وقدرتها الدائمة على الإدهاش. مثل هذه المدينة غير موجودة في الراهن من أيامنا. وربما يمكن تشكيلها لو جمعنا صفات محددة من مدن مختلفة على مدى العالم، كأن نجمع الطعام الذي تقدمه نيو أورلينز مع حرية المتع التي تقدمها سنغافورة ووفرتها، إلى مباني غاودي في برشلونة وتنوع تفاصيلها اللامتناهي إلى الحد الذي يجعلك تحسبها من صنع الأنواء والمصادفات.
حين تقيم في لاس فيغاس، فأنت تقيم في ذكرياتك. المكان في حد ذاته لا يملك أي هوية، إنه نسخة مقلدة عن أمكنة أخرى، والمعنى الذي يضاف إليه ويجعله محببًا أو مرغوبًا يتأتى أصلًا وأساسًا من ذاكرات الزوار
مثل هذا الجمع مستحيل، تمثيل المدن في مدينة واحدة على النحو الذي تفعله لاس فيغاس قد يكون لطيفًا وملطفًا. لكنه في حقيقته يشعر المرء بخساراته الدائمة. حين تقيم في لاس فيغاس، فأنت تقيم في ذكرياتك. المكان في حد ذاته لا يملك أي هوية، إنه نسخة مقلدة عن أمكنة أخرى، والمعنى الذي يضاف إليه ويجعله محببًا أو مرغوبًا يتأتى أصلًا وأساسًا من ذاكرات الزوار. والحق، ليس ثمة مقيمون في لاس فيغاس، وتاليًا ليس ثمة احتمال لولادة الحرفي والفنان في أرجائها. فالحرفي في مثل هذا المكان هو الذي ينتج أعمالًا زائلة، وهي تزول في لحظة ولادتها: موزعو أوراق اللعب، راقصو الاحتفالات، فنانو المطابخ والمطاعم. عدا ذلك ليس ثمة ما يدوم، وليس ثمة ما هو أصيل، كل شيء هناك يذكرك بنفسك وهي تتأرجح بين حالين: الفرص التي ضاعت منك والإنجازات التي حققتها. المدن التي زرتها، ولا تفعل لاس فيغاس إلا تذكيرك بها، والمدن التي لم يتسن لك زيارتها، وستعرض عليك هذه المدينة نماذج مصغرة لها. لهذا حين تكون في لاس فيغاس لا يسعك إلا أن تكون وحيدًا وسط هذا الحشد.
لاس فيغاس هي ميتافيرس ملموسة. لامعة ومضاءة وتعتمد في بقائها على دوام التقنيات وجودتها. لكنها بين مدن قليلة في العالم تستطيع أن تجذب كل مزاج. فثمة مكان لكل شخص هناك، والأمر الوحيد الذي لا يتغير ولا يتحول فيها هو النقود. النقود التي يمكنها أن تشتري كل شيء. وتجعل منفقها مالكًا لكل ما يشتريه حتى حين يكون ما اشتراه امرأة أو رجلًا.
لهذا كله، تبدو لي لاس فيغاس مدينة بلا مقيمين. شعوب زائرة تتداول الإقامة فيها ردحا ثم تعود إلى حيث تنتمي وتقيم. وهذا العيب الماثل في أصل بنيتها يبدو في فحواه مناسبًا أيما مناسبة لهذا العالم الذي ينحو نحو التماثل والتشابه على وجه لا نملك له ردًا.
التنوع الذي يحتاجه هذا العالم يشترط أول ما يشترط اختلاف الزائر عن المقيم. جهل الزائر الدائم ببواطن المدن التي يزورها وظواهرها. رغبته في التعرف إلى ما يجعله أكثر غنى وأوسع خبرة
التنوع الذي يحتاجه هذا العالم يشترط أول ما يشترط اختلاف الزائر عن المقيم. جهل الزائر الدائم ببواطن المدن التي يزورها وظواهرها. رغبته في التعرف إلى ما يجعله أكثر غنى وأوسع خبرة، فضوله الذي يخوله أن يتهجى لغات غريبة ويتعلم تناول أطباق غير مألوفة لذائقته، ويشم روائح لا تستسيغها ذائقته الفقيرة. وأغلب الظن أن العولمة التي تدفعنا دفعًا لتطليق الفضول والاكتفاء بالرائج والمعروف والمتوقع، هي ما يمنع نشوء أمكنة من هذا القبيل، وانتصابها منارات محلية في عالم يفترض به أن يكون متنوعًا وغنيًا وفائضًا بالمصادفات والدهشة.
هل نملك الخيار في أن نأمل بولادة أمكنة هذه صورتها؟ الأرجح أن ذلك ممكن نظريًا، لكنه يشترط أن نستعيض عن كاميراتنا بلغاتنا. أن نستعيد ملكة التعبير ونتخلى عن سهولة التصوير. ذلك أن التصوير يبدو في هذا السياق نشاطًا ببعدين لا يستطيع تجاوزهما أو تكثيرهما. في حين أن اللغة قادرة على الإحاطة بالغريب والمستهجن والمدهش والجديد دفعة واحدة. لكننا ولأسباب لا تحصى بتنا هواة صور وتصوير. ولم نعد نملك الوقت الكافي لنجرب جديدًا أو نختبر مختلفًا. وفي هذا ما يجعلنا أقل من أنفسنا.