يكون عيد الأم حدثًا مثيرًا في الفيسبوك. حفاوة منقطعة النّظير بالأم. صور وعواطف جيّاشة ورسائل وفيديوهات. تقريبًا عرفنا أمهات أصدقائنا كلهنّ. عرفنا أيضًا أننا شعب من المرضيين الذين يخفضون لهنّ جناح الذل من الرحمة.
علينا أن نعترف أن صورة الأم التي نعرفها ونحبّها ونستميت لأجل إحيائها ليس سوى صورة ذكوريّة
من غرابة الأشياء أنْ يتذكر المرء عددًا كبيرًا من زملاء المدرسة العاقين، الذين لعنت أمهاتهم الساعة التي ولدنهم فيها.
الأكثر غرابةً أن قسمًا كبيرًا منهم قضى فترة المدرسة خَجِلًا من التصريح باسم أمّه، وكثيرًا ما كان المعلمون، عند ملء بياناتنا أول وآخر السنة الدراسية، ينتزعون أسماء الأمهات كما لو أنها أسرار.
أتذكر زملاء كثيرين يقفزون من مقاعدهم إلى طاولة المعلم، لكي يعطوه اسم الأم همسًا، واليوم أراهم ينشرون صور أمهاتهم بكل فخر.
الله يا زمن! الله كم تطورنا!
الجانب الآخر من المعادلة، جانب الأم، لا يخلو بدوره من سخرية، خصوصًا أنّها أسيرة صور نمطية، مستمدة من الذاكرة الأسطورية والخطاب الديني والعرف الاجتماعي، فهي رمز التفاني والتضحية والعطاء والإخلاص، في حين أنها كائن إنساني لا يخلو من علل ونقائص وأعطاب وأوهام ونقائص.
يفوتنا دومًا، بسبب الحمولة الأخلاقية التي تحملها الأمّ كفكرة، أنّها كائن انتهازيّ بامتياز، تفانيها العظيم يقتصر غالبًا على أولادها هي، أولادها بالذات ولا أحد سواهم، ومن النادر أن يعود ذلك التفاني دافعًا للسلوك حين يتعلّق الأمر بأبناء الغير، وهو ما نجده بصورة مطابقة لما في الطبيعة، حين يقتصر دفاع مختلف أُمّات الحيوان على جرائها وحسب، وهو ما يمكن اعتباره دفاعًا عن النفس.
تعجبنا صورة الأم العظيمة في الروايات والأفلام، وفِي القصص الشعبية. الكل تأثر بـ"جنازة الأم العظيمة" لماركيز، و"الأم" لغوركي، وبالنَّفَس التبجيلي الذي أشاعته أغاني مثل "ست الحبايب" لفايزة أحمد، و"يا أمي" لسعدون جابر. الأم تقريبًا موضوع غنائي في الوعي الإنساني. صحيح أن صور الأمومة في تلك الأعمال وسواها تجد تشابهًا مع كثير من النماذج الواقعية، لكن الصحيح أيضًا أن الأدب والفن يصطفيان من الواقع حالاتٍ استثنائيّة، لا تعبّر بالضرورة عن قواعد عامة راسخة، غير أنها تصلح لطرح قصص وحالات شديدة الغرابة، وتأتي قوة التعبير الفنيّ لتجعلها نماذج. لنتذكّر أنّ زوربا ليس البشر كلّهم، وبناء عليه فالأم في "مئة عام من العزلة" ليست الأمهات كلهنّ.
علينا أن نعترف أن صورة الأم التي نعرفها ونحبّها ونستميت لأجل إحيائها ليس سوى صورة ذكوريّة، صورة تحطّ من شأن المرأة عبر جعلها في مرتبةٍ مفارقة لوضعها الإنساني، كما هي صورتها الاجتماعية العادية المُفارقة بدروها لما هو إنسانيّ. لماذا يجب أن تكون المرأة دومًا أدنى أو أعلى؟
الأم صورة الأنوثة التي يقدسها الرجال، والتي يريدون من النساء أن يكنّها لكي ينلن تقديرهم
الأم صورة الأنوثة التي يقدسها الرجال، والتي يريدون من النساء أن يكنّها لكي ينلن تقديرهم. لو جئنا نفكر بالأمر سنجد أنّ أمًّا تهرب مع عشيقها ستتحوّل على الفور، في نظر المجتمع، من أمٍّ عظيمة إلى زوجة خائنة. سوف تخسر صفة الأمومة وتُكسى بصفة الزوجة. هذا هو الحطّ من الشأن الذي يقرره الآخرون، بمنطق الذكور طبعًا. كما قرّروا من قبل، بالمنطق ذاته، أن يُعلوا من شأنها يقررون أن يحطوا منه. عندما لم تصنِ الأمومةَ كما يجب، بالنسبة للسلطة الاجتماعية، تنزل من مقامها العالي إلى مكانة الزوجة الخائنة، التي يناسبها أن تكون ملعونة من جهة، وتسمح لمن أراد من أولئك أن يرجمها من جهة أخرى.
في عيد الأم، نسينا الأم العادية، المرأة المقهورة، ولم يجرِ تذكرها أو تكريمها إلا بوصفها سببًا للعطاء، لأنها يجب أن تعطي، ولا يحق لها منذ قررنا أنها أمٌّ أن تأخذ إلا صفات التسامي والتعالي، صفات لا تعني شيئًا إلا مفارقتها لإنسانيتها وتحولها إلى ملاك، في حين أن تفاصيل حيواتنا الصغيرة ترينا أنهن يردن أن يكنّ في وضع بشري فقط، سواء في عقوباتهن لنا صغارًا، أو في الأتاوات التي يفرضنها علينا كبارًا.