"أميل الى تصنيف الفلاسفة حسب جودة ضحكهم، واضعًا في أعلى مرتبة أولئك الذين يقدرون على الضحك الذهبي". (نيتشه)
عندما أكون من بين الحاضرين للاستماع (والاستمتاع بـ) إلى محاضرة من محاضرات عبد الفتاح كيليطو، تثير انتباهي الابتسامات المتلاحقة التي ترتسم على شفاه أغلب الحاضرين من حين لآخر. أعترف بأن هذه الابتسامات لا تفتأ تحيّرني. فأنا لا أستطيع أن أردها إلى سبب بعينه، خصوصًا وأن عبد الفتاح، كما أعرفه، لا يتقن فن "الإضحاك". وحتى أثناء محاضراته، غالبًا ما يلبس لباس الرصانة والرزانة. لا أعني بذلك أنه يتلحف لباس الوقار، الذي غالبًا ما يكون هو لباس الوثوقي. فمن أين تتأتى تلك الابتسامات إذن؟
كان المرحوم أندري ميكيل قد كتب في تمهيده للطبعة الفرنسية من كتاب "العين والإبرة": "عبد الفتاح كيليطو يلعب بالصور المتعددة التي يمكن أن تتخذها الكلمات، وبانشراح نادر"
ربما سيكون الجواب أقل عسرًا لو أن الأمر كان يتعلق بانبهار العيون، وليس بابتسامة الشفاه. الدهشة حال يمكن تفسيرها في مثل هذا السياق، خصوصًا وأن عبد الفتاح، كما هو معروف، يتمتع بمهارة الحكي. وسرده الذي تضبط إيقاعه الاستطرادات والأسئلة والإثارات، يأخذ بخناق المستمع. وقد سبق للأديبة مارينا وارنر أن صنفته كـ"راوٍ من الرواة". الرواة قد يثيرون دهشة من يصغي إليهم، إنهم يدَعُونهم "معلَّقين"، متطلعين إلى ما سيقع. وهم يأخذون بالألباب، إلا أنهم قلما يجرّون مستمعيهم إلى رسم الابتسامات على الشفاه.
كان المرحوم أندري ميكيل قد كتب في تمهيده للطبعة الفرنسية من كتاب "العين والإبرة": "عبد الفتاح كيليطو يلعب بالصور المتعددة التي يمكن أن تتخذها الكلمات، وبانشراح نادر". نحن إذن، مع صاحب كتاب "المعري" في جو الانشراح واللعب. وهذا أمر سبق هو نفسه أن أكده في أحد حواراته: "صدقيني أنه لولا وجه اللعب الذي تتخذه الكتابة، لما كتبت. ما جدوى الكتابة إذا لم نلعب في الوقت ذاته بالكلمات والصور والذاكرة؟".
من يذكر اللعب يذكر الطفولة وبراءتها حتى لا نقول سذاجتها. مناخ القراءة الذي يخلقه كيليطو هو مناخ قراءات بعيدة عن الشروح والتفسيرات، قراءات "صغيرة السن" لم يثقل كاهلها الزمن، ولم تغلفها "طبقات" النقاد والمعلقين بغلافها. إنها قراءات لم "تنضج بعد"، ولم يتسلط عليها تاريخ الأدب بعصوره وتصنيفاته، بمدارسه وتياراته. إنها قراءة مرحة، بعيدة عن جدية النقد.