نشرت هذه القصيدة ضمن المجموعة الشعرية المعنونة بـ"أوراق الغرفة 8"، آخر مجموعات الشاعر الراحل أمل دنقل (1940 - 1983). وقد ظهرت للمرة الأولى في العدد الأول من مجلة الكرمل عام 1981 بعنوان "وداعًا ديسمبر"، لتسقط كلمة "وداعًا" من العنوان عند نشر القصيدة في ديوان لاحقًا.
يأتي شهر ديسمبر، أو كانون الأول، ليمثّل شهر النهاية في السنة، ولهذا سيلعب الدور نفسه في هذه القصيدة، بل سيبدو الشهر الأخير في روزنامة الحياة كلها. إنه شهر المغادرة، شهر الموت، كيف لا ومن يصفه بذلك شخص مريض يعاني آلامًا تكاد لا تتوقف؟
الغرفة 8 هي الغرفة التي نزل فيها الشاعر في المعهد القومي للأورام في القاهرة، حيث خاض صراعه مع السرطان. وتعدّ القصائد التي كتبها في هذه الفترة من أكثر قصائده صفاء، لأنّها ولدت نتيجة صراع من نوع خاص، هو بتعبير الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي "صراع بين متكافئين، الموت والشعر".
هكذا إذًا فالمجموعة الشعرية الأخيرة هي القصائد التي جُمِعتْ بعد موته، ولم تجد زوجة الشاعر الصحافية عبلة الرويني ولا أصدقاؤه اسمًا لها سوى "أوراق الغرفة 8".
1
تتساقط أوراق ديسمبر الباهتةْ
....
هو عمرٌ من الريح
(هذا الذي بين أن تترك الورقة الغصن
حتى تلامس أطرافها حافة الأرض)
عمرٌ من الاضطراب
فافترشن جواري - أيتها الباحثات عن الذات
وجهَ التراب
وتعالين نروِ الأقاصيص
عن راحة الروح
عن لذة الاغترابْ
وعبودية الأغصن الثابتةْ.
2
أخذوا أصدقائي للسجن
لكنهم في ليالي الحنين
يقبلون لنشرب كأسين
في البار ذي الردهة الخاليةْ
فإذا دقت الساعة الثانيةْ
صفّق الخدم المتعبون
فاختفى أصدقائي وهم يضحكون
- نلتقي ثانيةْ
نلتقي الليلة التاليةْ ـ
....
بعدها خرجوا: انقطع الخيط من بيننا
واستطال السكون
كان ما بينهم: ذكريات.. وخبز مرير
ومسحة حزن
قلت: ها أصبحوا ورقًا ثابتًا في شجيرة سجن
فمتى يفلتون
من الزمن المتوقف في ردهات الجنون؟
3
ها هو الرخ ذو المخلبين يحوم
ليحمل جثة ديسمبر الساخنة
ها هو الرخ يهبط
والسحب تلقى على الشمس طرحتها الداكنة
قالت الراهبات:
"سلام على الأرض"
يا أيها الرخ: كم جثة حملتها مخالبك الأبدية خلف الجبلْ؟؟
ما الذي نحن نعطيك - يا أيها الرخ - منذ الأزلْ؟
ما الذي نعطيك؟
لا شيء إلا توابيت
لا شيء
إلا المبادلة الخائبة
جثث تتراكم في الضفة الساكنة
بينما نحن - نمتلك النور - عشب البحيرات - صوت الكناريا
- مجالسة الورد - أنشودة المهد
رقص البنات الصغيرات في العرس - تمتمة القط في الصلوات- خرير الينابيع
هذا التساؤل عن لون عينين عاشقتين
كنافذتين على البحر - طعم القبل
بينما أنت من ظلمة العدم الآسنةْ
تتلقى النفايات تلو النفايات دون كللْ
عاجزًا عن ملامسة الفرح العذب
عن أن تبل جناحك في مطر القلب
أن تتطهر بالرقة الفاتنة
4
قلت للورق المتساقط من ذكريات الشجر
إنني أترك الآن - مثلك - بيتي القديم
حيث تلقي بي الريح أرسو
وليس معي غير
حزني المقيم
وجواز السفر.