أمي لم تشبه الممثلات في إعلانات التلفاز، لم تضحك وهي تطبخ الرز المصري، لم تفرد شعرها وهي تسكب الزيت في المقلاة، لم تشرح لجمهور خفي مكونات كيكة الشوكولاتة، ولا أذكر أنها رقصت يومًا وهي تفتح علبة السمنة الجديدة.
أبي مسافر، وأمي موظفة، تقضي ساعات الصباح الأولى في إيقاظ الأولاد، وتحضير سندويشات المدرسة، وجمع الدفاتر، وتفقد أقلام التلوين. عند السابعة وعشر دقائق ننطلق، تحمل أمي حقيبتها على كتفها، وأخي الأصغر على ذراعها الأيمن، بينما تمسك يدي تارة بكفها الأيسر، ويد أخي الأكبر تارة أخرى.
نسير على أقدامنا خروجًا من أزقة ضيقة لا تصلها وسيلة نقل، ثم تتدافع مع الآخرين لتؤمن لنا مكانًا في تلك الوسيلة، توصلنا إلى المدرسة، توصل أخي إلى الحضانة، وتنطلق إلى عملها، بعد ست ساعات من الأخذ والرد تعود إلى البيت، هذه المرة تحمل رضيعها، الخضار، مسحوق الغسيل، كيس رز، وعلبة سمنة، تغسل وجهها وكفيها على عجل، تدخل المطبخ، تسخن البامية التي حضرتها مساء أمس، تطبخ الرز، تحضر السلطة، ثم تبدل ملابسها، وهي تعلق عينًا على أزرار القميص، وعينًا على فرن الغاز، نتناول الغداء، تجلي الصحون، تتنهد تنهيدة طويلة، قبل أن تستلم مهمة مراقبة الواجبات المدرسية، وتسميع الدروس، وتصحيح الإملاء، منها تنتقل إلى غسل الملابس، وكي "الصداري"، وحل مشكلاتنا مع أولاد الحارة: حرماننا من اللعب في الحارة أحيانًا، والتوبيخ أحيانًا أخرى.
ربما صار علينا الآن تصحيح مواضيع الإنشاء، لنستبدل هالة القدسية حول الأم بضنك العيش، ولنضع بدلًا من جناحي الملائكة ذراعين، واحدة تصد الخوف، وواحدة تجلب الهدوء والحنان
يبدو الحديث عن يوم أمي مملًا، أليس كذلك؟ لا شيء مميز فيما تقوم به، كل الأمهات تفعل ذلك؟ ربما، لكني لم أكن أعرف هذا قبل خمسة عشر عامًا، لم أكن أعرف حين حملت في قلبي صراخها، وتوبيخها، وعبوسها شبه الدائم، حين حمّلتها عبء عقدي، وآلامي، ورغباتي، وحين حلمت بأم تشبه الممثلات، الممشوقات، الضاحكات.
وقتذاك لم يكن الحديث عن نزق أمهاتنا أمرًا شائعًا، لم نستطع تبادل الآراء حول تصرفاتهن، ولم نتشارك خيالاتنا عن أمهات غيرهن، أمهات لا يغضبن، لا يصرخن، لا يعرفن أساليب العقاب، أمهات لا تتزحزح الابتسامة عن وجوههن، يتحدثن بصوت ناعم دائمًا.
كنا نخاف غضبهن المربوط بحبال جهنم الملتهبة، وكانت هالة القدسية التي تحيط بالأمهات في دروس القراءة، والصفات من قبيل "ملائكة بجناحين" في مواضيع التعبير، تقض مضاجع الأطفال الذين يجدون ما يُشتكى منه. لم يخبرني أحد بأن أمي امرأة، امرأة من لحم، ودم، وطاقة، تغضب حين تُترك وحدها، تتألم حين تضطر لتكرار يومها، تتعب من حمل الأولاد والأغراض، والمسؤولية، يتشقق كفها - كفها لا جناحها الوهمي –، تجف ابتسامتها، ينهد كتفها، وتفعل رغمًا عن كل ذلك، ما تفعله الأمهات، تربينا، وتحاول قدر المستطاع أن تكون تربيتها "أحسن تربية".
اكتشفت هذه الحقيقة الساذجة الغائبة عن ذهني يوم صرت أشبهها، نادرًا ما أضحك في المطبخ، لا أتمايل على موسيقى كلاسيكية وأنا أخرج الدجاج من الفرن، لا أفتح ذراعي للدنيا، ولا صدري للهواء عندما أشتري علبة المحارم النسائية، يوم اكتشفت معنى أن نكون نساء حقيقيات، لا ممثلات إعلانات تلفاز، نساء محملات بآلاف التصورات، عما يطلبه الجميع منا، معنى أن نوضع في إطار ذهبي، لصورة مشوشة.
تُفرض علينا عاطفة الأمومة منذ الطفولة فرضًا، نُمنح دمى على شكل خدّج، ونقضي سنوات بانتظار أن تدّب الروح في الدمية، فإذا دبّت فُرض علينا أن نفني ما تبقى من سنوات في سبيل أن نكون أمهات صالحات، فما هو معيار الصلاح؟
علينا أن نكون أمهات محبّات، مضحيات، لا يفكرن في أنفسهن أبدًا، تدور حياتهن حول أبنائهن، يرتبط فرحهن بفرحهم، وحزنهن بحزنهم، أمهات منزلات، ومنزهات، مدرسة ليست بشرًا، إن أعددتها أعددت البشر.
وعلى الضفة الأخرى، علينا أن نكون جميلات، نحيلات، بأظافر ملونة، ووجه صافٍ، وشعر ناعم، سعيدات، مبتهجات، ومحتفلات طيلة الوقت.
ونكاية بهذه التصورات أقول، وبكل فخر: أمي لم تشبه ممثلات التلفاز، أمي امرأة عادية، تميزها قدرتها على التحمل، وتشبهني، أنا، الفرق الوحيد بيني وبينها أني لا أشعر بعاطفة الأمومة أبدًا، عمري ثمانية وعشرون عامًا، ولا أرغب في إنجاب طفل، لا أرغب في أن أصير أمًا، لا أجرؤ طبعًا على الإفصاح عن ذلك، جرّبت مرة، لامني الجميع، طلبوا مني استغفار الله، كي لا يحرمني هذه النعمة لجحودي، نعمة أن أسحق روحي في سبيل إرضاء الصورة المسبقة المفروضة، ونعمة أن تحرمني القوانين طفلي عند زلة قدم، لا أهذي، رأيتهن في أروقة المحاكم، خفت عليهن، وخفت على نفسي، نساء بعيون دامعة، ووجوه واجمة، يتوسلن لأن الحضانة سقطت عنهن، يتشبثن بأثواب الأولاد كي لا يذهبوا، وأخريات لم يرين أطفالهن منذ سنوات، يمسكن أوراقًا رسمية بأكف متعرقة، يقطعن الممرات بأقدامهن المرتجفة، وينتظرن طاقة فرج!
ربما صار علينا الآن تصحيح دروس القراءة، ومواضيع التعبير، لنستبدل هالة القدسية بضنك العيش، ولنضع بدلًا من جناحي الملائكة ذراعين، واحدة تصد الخوف، والمرار، والخيبة، وواحدة تجلب الهدوء، والاستقرار، والحنية.